وليست تحضرني عبارة تنبئ عن محلِّه في الفضل وعلوّ منزلته في العلم ، فإنّه الّذي فتق الكلام ونشره ووضع فيه الكتب الجليلة الّتي سارت بها الركبان وبلغ المشرق والمغرب ، وضمّنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتّفق لأحد قبله ، وطال عمره مواظباً على التّدريس والاملاء حتّى طبّق الأرض بكتبه وأصحابه. وبَعُدَ صوته وعظم قدره وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها وعالمها غير مدافع ، وصار الاعتماد على كتبه ومسائله حتّى نسخ كتب من تقدّم من المشايخ وقرب عهده ، وشهرة حاله تغني عن الاطناب من وصفه. وفيه يقول أبو الأسعد الآبي في قصيدة له في التوحيد والعدل :
ويعدّ من مشايخ أهل العدل.
أم لكم مثل إمام الاُمّة |
|
قاضي القضاة سيّد الأئمّة |
من بثّ دين الله في الآفاق |
|
وبتّ حبل الكفر والنفاق |
وأصله من أسدآباد همدان ، ثمّ خرج إلى البصرة واختلف إلى مجالس العلماء وكان يذهب في الاُصول مذهب الأشعريّة وفي الفروع مذهب الشافعي ، ولما حضر المجالس وناظر ونظر عرف الحق ، وانقاد وانتقل إلى أبي إسحاق بن عيّاش فقرأ عليه مدّة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبدالله مدّة مديدة حتّى فاق الأقران وخرج واحد دهره وفريد زمانه ، وصنّف وهو بحضرته كتباً كثيرة وكان ربّما يدرس بها وبالعسكر (١) ورامهرمز (٢).
وابتدأ بها إملاء « المغني » في مسجد عبدالله بن عبّاس متبرّكاً به. فلمّا قدم الريّ سألوه أن يجعله باسم بعض الكبار فأبى واستدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستّين وثلاثمائة فبقى بها مواظباً على التدريس إلى أن توفّي سنة ٤١٥ أو ٤١٦ فكان يدرس ويملي وكثر الانتفاع به وطار ذكره في الآفاق.
__________________
١ ـ عسكر مكرم بلد مشهور من نواحي خوزستان.
٢ ـ مدينة من بلاد خوزستان.