يلاحظ على الاستدلال الأوّل : أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة ، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف ، فقدان القدرة والطّاقة ، إذ لو كانت لآمنت ، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.
هذا ، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع ، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور ، ولا يستكشف من عدمه عدمه ، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.
فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل ، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.
ويلاحظ على الثاني : أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد ، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين ، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة ، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول : إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً وكافراً.
وبالجملة : كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة ، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً ، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.
والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين ، إذ لم ينقّح موضوع البحث ، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل ، والعلّة التامّة فمقارنة له (١).
__________________
١ ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا : ص ١٧٢.