الأمر ؛ لأنهم يأخذون الامور على ظواهرها ، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك ، إلا بعد تنبيه وتذكير ؛ فللوهلة الاولى تجوز عليهم الخدعة ، ويقدرون خطوة المأمون هذه ، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة ، تحت ظل حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا ، والانصاف طريقة ..
ثم .. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه ، من أجل تسميم الأفكار ، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لاسقاط الامام ، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم ؛ فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة ، وحصل على ما يريد الحصول عليه منها .. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الامام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها .. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تماما ؛ فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد ، والورع والتقوى (١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الاخير الامة ومصلحتها ؛ حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه ، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين ، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد ، وغيرها.
لعل من الواضح أن كثيرا من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم ، وقلة معرفتهم : أن هناك منافاة بين الزهد والورع ، والتقوى ، وبين المنصب ، وأنهما لا يتفقان ، ولا يجتمعان.
__________________
(١) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٤ ص ٢٦١.