هذا ، ولكن هذه المبعدات لا تتجه بناء على ما سلكناه نحن في تفسير الوضع ، لما عرفت من أن عملية الوضع لا تعدو أن تكون عملية ، طبيعية بسيطة هي الإشراط بين منبه اللفظي مع المعنى في إحساس الإنسان ، المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الذهنية. الأمر الّذي كان مألوفا لديه في حياته الطبيعية بلا حاجة إلى افتراض إدراك معان دقيقية أو اعتبارات عقلائية معقدة. والقانون الطبيعي المذكور وتطبيقاته الطبيعية في حياة الإنسان نسبته إلى المجموعة البشرية على حد واحد لأنهم جميعا مزودون به كبرويا ويمارسون تطبيقاته الخارجية في الحياة الطبيعية كثيرا ، فيكون من المعقول افتراض أن مجموعة متقاربة من الناس في مواطن العيش وظروفهم الطبيعية قد اتفقوا فيما بينهم تدريجا على اختيار ألفاظ مخصوصة وتعيينها بإزاء معان مخصوصة بشكل بدائي ساذج ثم تطور ذلك عندهم بمرور الزمن وتنامي خبراتهم.
ولكن ، مع ذلك نحن لا نملك برهانا قاطعا على نفي اتجاه إلهية الوضع وأن الوضع ونشوء ظاهرة اللغة في حياة الإنسان كان من صنع نفسه مائة بالمائة. بل من المحتمل أن تكون قد بدأت هذه الظاهرة في حياة الإنسان أول ما بدأت بتدخل وعناية من الله سبحانه وتعالى ، بأن يكون قد ألهم آدم فعلمه الأسماء والألفاظ وكيفية استخدامها في مجال نقل أفكاره وخواطره إلى الآخرين ، بل فرضية الإلهام بأصل اللغة لعلها هي المناسبة مع ما هو الملاحظة في جملة من النصوص الدينية التي تؤكد على أن الخليفة الأولى من البشر ـ آدم وزوجته ـ كانا على معرفة واطلاع بلغة مكنتهما من الحوار والتفاهم فيما بينهما قبل أن يهبطا إلى الدنيا ويمارسا نشاطهما الطبيعي والاجتماعي فيها ، وهذا من المستبعد جدا أن يحصل من دون افتراض إلهام رباني كان بذرة في طريق نشوء هذه الظاهرة بعد ذلك في حياة الإنسان.