دعويهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم ؛ وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم ، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم ؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعاً فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم ؛ وهو ظاهر .
والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم ، وعمدة ذلك نبوة عيسى عليهالسلام وما كانت تقوله النصارى في حقه ( إنه الله ، أو ابنه ، أو التثليث ) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه ، وكانت اليهود تحاج النصارى ، وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم ، واما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهودياً أو نصرانياً .
وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر ، ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعاً لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى : أفلا تعقلون ، فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه ، فهم عالمون بأنه كان سابقاً على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهودياً ولا نصرانياً بل على دين الله الذي هو الإسلام لله .
لكن اليهود مع ذلك قالوا : إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهودياً ، وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم ، وقد جهلوا في ذلك أمراً وليس بذهول ، وهو أن دين الله واحد ، وهو الإسلام لله ، وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال ، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين ، والأنبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان ، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان الرفيع .
وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا
يلزم من كون إبراهيم مؤسساً للإسلام وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية ، وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً بل يكون مسلماً