من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل ، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك ، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآرائهم بعضها عن بعض ، وبرز فيهم الفرقة ، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول : ولا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان أولاً ، وخرجوا من الجماعة ، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد والآراء أخيراً .
وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي . قال تعالى : « وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » البقرة ـ ٢١٣ ، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك ، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضاً ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة ، وإعراض الامة عن ذلك بغي منهم ، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف .
وقد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد ، وبالغ في النهي عن الاختلاف ؛ وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة ، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك ، وقد تقدم مراراً أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه ، وهذا أمر أخبر به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً كما أخبر به القرآن ، وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة ، وأن امته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجیء الرواية في البحث الروائي .
وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الامة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دون أن تفرقوا شذر مدر ، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهباً ثالثاً .
والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية
أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو