« وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا » النساء ـ ١٦٣ ، وقوله تعالى : « مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ » الآية ، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى : « وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ » الشورى ـ ٥١ ، فإِن الاستثناء في قوله تعالى : الا وحيا « الخ » ، لا يتم الا اذا كان التكليم المدلول عليه بقوله : ان يكلمه الله ، تكليماً حقيقة ، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص ، فحد اصل التكليم حقيقة غير منفي عنه .
والذي عندنا من حقيقة الكلام : هو أن الانسان لمكان احتياجه الى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إِلى جميع ما يحتاج اليه هذا الاجتماع التعاوني ، ومنها التكلم ، وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إِلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم ، ويجعل الاصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق اليها إِلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية ، فالانسان محتاج الى التكلم من جهة انه لا طريق له الى التفهيم والتفهم إِلا جعل الالفاظ والاصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية ، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة ، أعني : الاحتياجات التي تنبه لها الانسان في حياته الحاضرة ، ولذلك ايضاً كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه ، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية .
ومن هنا يظهر : أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالاصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إِنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع ، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت ، ( على ما نحسب ) واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه ، فلو كان ثم انسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة الى التكلم قطعاً لعدم مساس الحاجة الى التفهيم والتفهم ، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده الى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلاً .
فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما
يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة اليه ، الدلالة
الاعتبارية