آخرون لحرمانهم .
( بحث آخر علمي )
قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في اعيانهما ولكن يضطر الخلق اليهما من حيث أن كل إِنسان محتاج الى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز عما يحتاج اليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران وهو محتاج الى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج الى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ، ولا بد في مقدار العوض من تقدير ، إِذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال : يعطى مثله في الوزن أو الصورة ، وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الاشياء لا تناسب فيها ، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً ، فافتقرت هذه الاعيان المتنافرة المتباعدة الى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إِذا تقررت المراتب ، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي ، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الاموال حتى تقدر الاموال بهما ، فيقال : هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوى مأة ، فهما من حيث انهما متساويان لشيء واحد متساويان ، وانما أمكن التعديل بالنقدين إِذ لا غرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الامر ، فإِذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الايدي ، ويكونا حاكمين بين الاموال بالعدل .
ولحكمة أُخرى وهي : التوسل بهما الى سائر الاشياء لانهما عزيزان في أنفسهما ، ولا غرض في اعيانهما ، ونسبتهما الى سائر الاموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء ، لا كمن ملك ثوباً فإِنه لم يملك إِلا الثوب ، فلو احتاج الى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابة مثلاً ، فاحتيج الى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الاشياء ، والشيء انما تستوي نسبته الى المختلفات إِذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها ، كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة الى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية . وفيهما ايضاً حكم يطول ذكرها .