ثانيا : قوله : « وليس في الآية بيان حقيّة المذاهب ».
فيقال فيه : ليس في الدين مذاهب (١) وإنما : ( الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) وإنما
__________________
(١) ونحن نسأل الآلوسي وغيره عن هذه المذاهب والتي هي أربعة عندهم فقط : أكان أهلها من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أو لا؟ وهل كانوا جميعا من التابعين الّذين لقوا أصحابه صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعوا منهم ورووا عنهم أو لا؟ أو أنهم تكلموا فيما بعد وتعلموا العلم من الآخرين ، فتقرر إجماع المتأخرين من جمهور أهل السنّة من عهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري في مصر سنة ( ٦٥٥ ه ) إلى يومنا هذا على وجوب تقليدهم والأخذ بقول واحد منهم وحرمة ما عداها ، وأن من خالف ذلك إلى غيره لا يولّى إمامة الجماعة ولا منصب القضاء ، ولا يباع ولا يشارى ، ولا يصلّى على جنازته كما سجّل ذلك كلّه المقريزي في خططه ( ص : ١٦١ ) من جزئه الرابع عند ذكره للملك المذكور.
أما الأول والثاني : فلا بد وأن يقول في جوابهما : ( لا ) ، وأما الثالث ، فيقال له : هل في كتاب الله آية أم في السّنة النبوية صلىاللهعليهوآلهوسلم رواية تدل على وجوب الأخذ بقول واحد منهم؟ وهل كانوا جميعا في زمان واحد؟ فلا بد أن يقول في جوابهما : ( لا ) لأنهم كانوا في أزمان متفرقة ، فقد ولد أبو حنيفة النعمان سنة ثمانين ومات سنة خمسين ومائة ، وولد مالك سنة خمس وتسعين ومات سنة تسع وسبعين ومائة ، وولد محمد بن إدريس الشافعي سنة خمسين ومائة ومات سنة مائتين وأربع ، وولد أحمد بن حنبل سنة أربع وستين ومائة ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين ، على ما سجّل ذلك كلّه ابن خلكان في وفيات الأعيان في ( ص : ١٧ و ٢٦ و ٣٢ و ٤٢٩ و ٤٤٧ و ٤٤٨ ) من جزئه الأول ( وص : ١٦٣ و ١٦٦ ) من جزئه الثاني ، وهكذا ذكره المقريزي في خططه من جزئه الرابع.
ثم يقال للآلوسي : هل كان هؤلاء كلّهم على مذهب واحد وفتوى واحدة؟ فلا بد أن يقول : إنهم كانوا على آراء مختلفة وعقائد متضادة كما صرح به المقريزي في خططه ( ص : ١٨٦ ) من جزئه الرابع ، وغيره من مؤرخي أهل السنّة ممن جاء على ترجمتهم ـ وقد تقدم ذكر بعضها ـ وحينئذ يقال له : كيف جاز في الدين الاتفاق على وجوب الاقتداء بهم والقرآن لم يأمر به والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يرخص فيه مع ما هم عليه من الاختلاف الفاحش في الفتاوى ، الأمر الّذي خرجوا به عن طريق النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاتفاق وعدم الاختلاف ، وتباعدوا بذلك عن قواعد الإسلام من وحدة العقيدة واتحاد المبدأ وعدم التضاد في أحكامه من حلاله وحرامه في المجالات كلّها ، كما يقول القرآن : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : ٣ ] فإذا كان الدين كاملا في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما ذا اختلف هؤلاء في حلاله وحرامه وتناقضوا في أهوائهم وتباينوا في آرائهم؟ فإن قال : إن هذا الاختلاف من الرواة الّذين رووا عنهم ، فيقال له : فقد شهدت على رواة الحديث عندك بالكذب أو الضلال وتبديل الإسلام ، فكيف يجوز الوثوق بهم والاعتماد عليهم فيما ينقلونه عنهم ، وإن قال : هذا الاختلاف من الأئمة الأربعة أنفسهم لحاجة دعتهم إلى ذلك ، أو لطلب ما ضاع والتبس عليهم من شرع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقد شهدت على نفسك بأن الدين لم يكن محفوظا ولم يترك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم قيّما عليه وحافظا له من الضياع وقائما به ، فكيف يجوز الاقتداء بمن يشهد على ربّه ونبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وشريعته بمثل هذه الأباطيل ،