وهذا نصّ جلّي منه عليهالسلام على ضلال المتقدّمين عليه.
وقوله عليهالسلام في خطبة الشقشقية : والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا ، ينحدر منه السيل ولا يرقى إليه الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، فرأيت أنّ الصبر على هاتيك أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا (١).
فعدل عليهالسلام عن تسمية المتقدّم عليه وتكنيته وتلقيبه (٢) بما تدعى له من الألقاب الحسنة إلى أقبح الألقاب ، وذلك غاية في الاستخفاف به ، وصرّح بأنه تولّى الأمر دونه مع علمه بكونه منه كالقطب من الرحى الّذي لا يتمّ صلاحها من دونه ، مع كونه في الذروة منه الّتي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير لعلوّها ، وأنّه ظلّ مرتئيا في الصولة بالظالم مع عدم الناصر المعبّر عنه بقصر اليد ، أو يصبر على العظيمة ، وأنه رجّح الصبر من حيث كانت الصولة بغير ناصر لا ترفع ظلما وتؤثر هلاك الصائل ، ثم وصف حاله صابرا في عينه القذا وفي حلقه الشجا ، وذلك موكّد لما قلناه.
ومرّ في كلامه مصرحا بالتظلّم من الثاني والثالث ، ووصف خلافتيهما بالضلال كالأول.
وقال : فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة وقسطت شرذمة ومرق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله تعالى يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٣) ، بلى والله لقد سمعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ، أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر ولزوم الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على ولاة الأمر أن لا يقاروا (٤) على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفوا دنياهم أهون
__________________
(١) نهج البلاغة ١ : ٣٠ ـ ٣٧.
(٢) في النسخة : « ويلقّبه ».
(٣) القصص ٢٨ : ٨٣.
(٤) في النسخة : « أن لا تفارقوا » ، والمثبت من المصدر.