وحيث لم تكن الأدلّة السابقة دالّة على أنّ كلّ جسم مفرد قابل للقسمة الانفكاكيّة ، بل إنّما تدلّ على أنّه قابل للقسمة الوهميّة ، أراد أن يبيّن أنّ كلّ جسم كما هو قابل للقسمة الوهميّة كذلك قابل للقسمة الانفكاكيّة ؛ فإنّ القسمة بأنواعها الثلاثة ـ أعني الانفكاكيّة والوهميّة والتي تكون من جهة اختلاف الأعراض الإضافيّة أو الحقيقيّة ـ تحدث في المقسوم اثنينيّة تكون طبيعة كلّ واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه الموافق له في الماهيّة.
وكلّ واحد من القسمين لمّا صحّ عليه الانفكاك عن صاحبه وكذا كلّ واحد من قسمي القسمين إلى ما لا يتناهى ، فجواز القسمة الوهميّة ملزوم لجواز القسمة الانفكاكيّة ، فبطل مذهب ذيمقراطيس وأتباعه ، وهو أنّ مبادئ الأجسام البسيطة أجسام صغار صلبة متجزّئة في الوهم لا الخارج ، فالجسم المتّصل بالحقيقة غير قابل للانفصال الفكّي وما يقبله كالماء واتّصاله بحسب الحسّ لا بالحقيقة (١) ووجه البطلان واضح.
قال : ( وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي ).
أقول : بعض الأجسام قد يمتنع عليه القسمة الانفكاكيّة لا بالنظر إلى ذاتها ، بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسميّة : إمّا صغر المقسوم بحيث لا يتناوله الآلة القاسمة ، أو صلابته ، أو حصول صورة تقتضي ذلك ، كما في الفلك عندهم ، ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي ، فلا يلزم عدم كونه غير قابل للقسمة الانفكاكيّة.
قال : ( فقد ثبت أنّ الجسم شيء واحد متّصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى ).
أقول : هذا نتيجة ما مضى ؛ لأنّه قد أبطل القول بتركّب الجسم من الجواهر المفردة ، سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، وثبت أنّه واحد في نفسه متّصل لا مفاصل له بالفعل ، ولا شكّ في أنّه يقبل الانقسام ، فإمّا أن يكون لما يتناهى من
__________________
(١) انظر : نفس المصادر المتقدّمة.