الحارّ بالبارد ، بمعنى أنّه يتسخّن بالقياس إلى البارد ويستبرد بالقياس إلى الحارّ.
وحكي عن بعض الحكماء (١) مثل انكساغورس (٢) وأتباعه [ ذهابهم ] إلى نفي ذلك وأنّهم قالوا : إنّ هاهنا أجزاء هي لحم وأجزاء هي عظام وغير ذلك من جميع المركّبات ، وهي مبثوثة في العالم غير متناهية ، فإذا اجتمعت أجزاء من طبيعة واحدة ظنّ أنّ تلك الطبيعة حدثت ، وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة والحادث التركيب لا غير.
والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة ؛ فإنّا نشاهد تبدّل ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة.
قال : ( فتفعل الكيفيّة في المادّة فتكسر صرافة كيفيّتها وتحصل كيفيّة متشابهة في الكلّ متوسّطة هي المزاج ) (٣).
أقول : لمّا ذكر أنّ المركّبات إنّما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفيّة هذا التفاعل.
واعلم أنّ الحارّ والبارد أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كلّ منهما في الآخر أثرا لم يخل إمّا أن يتقدّم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ، ويلزم من الأوّل صيرورة المغلوب غالبا وهو محال ، ومن الثاني كون الشيء الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال ، فلم يبق إلاّ أن يكون الفاعل في كلّ واحد منهما غير المنفعل. فقيل : الفاعل هو الصورة ، والمنفعل هو المادّة (٤).
__________________
(١) الحاكي هو الخواجة في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.
(٢) فيلسوف يوناني ، كان أوّل من أدخل الفلسفة إلى مدينة أثينا ، كي تصبح من بعد المهد الأكبر للفلسفة اليونانيّة ، ابتدأ من فكرة الوجود وأنكر فكرة التغيّر المطلق. وقد فسّر الحركة بإرجاعها إلى علّة غير مادّية ، هي العقل. لمزيد المعرفة راجع « موسوعة الفلسفة » ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.
(٣) المزاج : كيفيّة متشابهة تحصل من تفاعل عناصر منافرة لأجزاء مماسّة ، بحيث تكسر سورة كلّ منهما سورة كيفيّة الآخر. كذا عرّفه الجرجاني في « التعريفات » : ٢٧٠ ، الرقم ١٣٤٢.
(٤) قال به الشيخ ابن سينا في « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٧٥ و ٢٧٨.