أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلّوا بها على إثبات العقول المجرّدة مع الجواب عنه.
وتقرير الدليل : أن نقول : حركات السماوات إراديّة ؛ لأنّها مستديرة ، لأنّ الحركة إمّا طبيعيّة أو قسريّة ، والمستديرة لا تكون طبيعيّة ؛ لأنّ المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع ، وكلّ جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإنّ تركه بعينه هو التوجّه إليه ، وإذا انتفت الطبيعيّة انتفت القسريّة ؛ لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وحيث لا طبع فلا قسر ، فثبت أنّها إراديّة. وكلّ حركة إراديّة فإنّها تستدعي مطلوبا ؛ لأنّ العبث لا يدوم ، وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به ، وإلاّ لم يتوجّه بالطلب نحوه.
وذلك المطلوب إمّا محسوس أو معقول ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ طلب المحسوس إمّا أن يكون للجذب أو للدفع ، وجذب الملائم شهوة ودفع المنافر غضب ، وهما على الفلك محالان ؛ لأنّهما مختصّان بالجسم الذي ينفعل ويتغيّر من حالة ملائمة إلى غيرها وبالعكس ، والأجرام السماويّة لا تنخرق ولا تلتئم ولا تتغيّر من حالة إلى أخرى ، فتعيّن أن يكون ذلك المطلوب معقولا.
وذلك المعقول إمّا محال أو ممكن حاصل ، أو ممكن الحصول الذي لا ينال أصلا ، وهو المراد من الحاصل قوّة ، أو ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء أو بدون الانتهاء ، وطلب المحال محال ، وطلب ما ينال يوجب انقطاع الحركة ، وكذا ما لا ينال ؛ لحصول اليأس ، وكذا ما ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء ، كما سيأتي ، فتعيّن الأخير ، فإمّا أن يكون ذلك المطلوب كمالا في نفسه أو لا. والثاني محال ، وإلاّ لجاز انقطاع الحركة ؛ لأنّه لا بدّ وأن يظهر أنّ المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك الطلب ، وإذا كان المطلوب كمالا حقيقيّا فإمّا أن يحصل بالكلّيّة ، وهو محال ، وإلاّ لوقفت الحركة كما مرّ ، فيجب أن يحصل على التعاقب.
ولمّا كانت كمالات الفلك حاضرة بأسرها سوى الوضع ؛ لأنّه كامل في جوهره ،