أقول : اعلم أنّ التعقّل هو إدراك الكلّيّات ، والإدراك هو الإحساس بالأمور الجزئيّة. وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أنّ النفس تعقل الأمور الكلّيّة بذاتها من غير احتياج إلى آلة ، وتدرك الأمور الجزئيّة بواسطة قوى جسمانيّة هي محالّ الإدراكات (١) ، خلافا لمن قال : إنّ مدرك الجزئيّات على وجه كونها جزئيّات هو الحواسّ (٢).
والحكم الأوّل ظاهر ؛ فإنّا نعلم قطعا أنّا ندرك الأمور الكلّيّة مع اختلال كلّ عضو يتوهّم كونه آلة للتعقّل ، وقد سلف تحقيق ذلك.
وأمّا الحكم الثاني ـ وهو إدراك الجزئيّات مع افتقارها في الإدراك الجزئي إلى الآلات ـ فلأنّا نحكم بين الكلّيّ والجزئي ، والحاكم بين الشيئين لا بدّ أن يدركهما ، وأنّا نميّز بين الأمور المتّفقة بالماهيّة المختلفة بالوضع من غير استناد إلى خارج ، كما أنّا نفرّق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيّلها ونميّز بينهما مع اتّحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع ، فليس الامتياز بينهما بذاتيّ ولا بما يلزم الذات ؛ لغرض تساويهما ، بل لأمور عارضة.
ثمّ اختصاص كلّ واحدة منهما بعارضها ليس بالمحلّ الخارجي ؛ لأنّ المتخيّل قد لا يكون موجودا في الخارج ، فليس امتياز إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى إلاّ بالمحلّ الإدراكي ، والمجرّد لا يصلح أن يكون محلاّ لذلك ، فتعيّنت الآلة الجسمانيّة.
__________________
(١) منهم الشيخ في « الشفاء » ٢ : ٢٧ و ٣٢ من كتاب النفس ، الفصل الرابع والخامس من المقالة الثانية ، و ٢ : ٥٠ ، الفصل الثاني من المقالة الثانية ، و ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة ، وانظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٣٠٨ وما بعدها.
(٢) نسبه الفخر الرازي إلى أرسطو وابن سينا في « المحصّل » : ٥٥٠ و « المطالب العالية » ٧ : ٢٤٧ ، ولكن الظاهر من كلمات الشيخ خلاف ذلك ، كما اعترف به في « المباحث المشرقية » ٢ : ٤٢٤. أما في « شرح المقاصد » ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، وفي هامش « شرح المنظومة من الحكمة » : ٢١٠ نقل المحقّق السبزواري هذا القول دون أن ينسبه إلى قائل.