فواجب الوجود لمّا كان مبدأ سلسلة الوجودات المترتّبة في أعلى مراتب شدّة الوجود وتجرّده ، ويكون غير متناه في كمال شدّته ، وغيره من الموجودات وإن فرض كونها غير متناهية في القوّة بحسب العدّة والمدّة لكنّها ليست بحيث لا يمكن تحقّق مرتبة أخرى في الشدّة هي فوقها ، فواجب الوجود لكونه فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى كان وزان عاقليّته لذاته على هذا الوزان ، فنسبة عاقليّته في التأكّد إلى عاقليّة الذوات المجرّدة لذواتها كنسبة وجوده في التأكّد إلى وجودها ، فعلم الموجود الحقّ بذاته أتمّ العلوم وأشدّها نورية وجلاء وظهورا ، بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها كما لا نسبة بين وجوده ووجودها ، وكما أنّ وجودات الممكنات منطوية مستهلكة في وجوده ، فكذلك علوم الممكنات منطوية في علمه بذاته.
ومنها : كلّ ما حكم به العقل بأنّه كمال لموجود ما من حيث هو موجود ولا يوجب تخصّصا بشيء أدنى ولا تغيّرا ولا تجسّما أو تركّبا ، وتحقّق في موجود من الموجودات ، كان ممكن التحقّق في الموجود الحقّ بالإمكان العامّ ، فيجب وجوده له تعالى لا محالة ، وإلاّ لكان فيه تعالى جهة إمكانيّة مقابلة للوجوب الذاتيّ ، وواجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع الحيثيّات ، ولا شكّ أنّ العلم صفة كماليّة للموجود بما هو موجود ولا يقتضي تجسّما ولا تغيّرا ولا مكانا خاصّا وقد تحقّق في كثير من الموجودات كالذوات العاقلة ، فيجب حصوله لذاته تعالى على سبيل الوجوب بالذات.
ومنها : أنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة عقليّة أن يكون واهب كمال ما ومفيضه قاصرا عن ذلك الكمال ، فيكون المستوهب أشرف من الواهب ، والمستفيد أعلى من المفيد؟! وحيث تكون جميع الممكنات مستندة إلى ذاته تعالى التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ، ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ، والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال لئلاّ يقصر معطي الكمال عنه ، فكان الواجب عالما بذاته ،