ولمّا كانت الشمس صيفا على سمت رءوس أهل المعمورة ، جعل أوجها هناك لئلاّ يجتمع قرب الميل وقرب المسافة معا ، ويشتدّ التأثير.
ولمّا كانت شتاء بعيدة عن سمت الرءوس ، جعل سمت حضيضها هناك لئلاّ يجتمع بعد الميل وبعد المسافة فينقطع التأثير.
ولو كانت الشمس دون هذا القرب ، أو فوق هذا البعد ، لما استوى تأثيرها الذي يكون عنها الآن.
وكذلك يجب أن يعتقد في كلّ كوكب وفي كلّ شيء ، ويعلم أنّه بحيث ينبغي أن يكون عليه » (١). انتهى كلام الشيخ.
وقوله : وكذلك يجب أن يعتقد ... معناه أنّه لمّا دلّ التدبير ـ التامّ المعلوم لنا في البعض ـ على علم الفاعل تعالى ، وأنّ هذا التدبير مسبّب عن علم كامل ، دلّ ذلك على التدبير في سائر أفعاله وإن لم نعلمه ، فليتدبّر.
فظهر أنّ الاستدلال بهذا الوجه غير مختصّ بالمتكلّمين ، بل هو أحرى بالحكماء ؛ لأنّ وجوه الإتقان والإحكام من التدابير الكلّيّة والمنافع الجزئيّة إنّما ظهرت بحسن سعيهم وشدّة اعتنائهم كما لا يخفى على المتدرّب في فهم العلوم الطبيعيّة والرّياضيّة ، فثبت علمه تعالى بأفعاله ، وأنّها صادرة عنه عالما بمصالحها ومنافعها.
فإن قيل : دليلكم منقوض بما قد يصدر عن بعض الحيوانات العجم من الأفعال المحكمة المتقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها كما لكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور ، وفيما بين الناس مشهور.
وكفى في ذلك ما يفعله النحل من البيوت المسدّسات المتساوية بلا مسطرة ولا فرجار ، واختيارها للمسدّس الذي هو أوسع من المثلّث والمربّع والمخمّس ،
__________________
(١) « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٨٨ ـ ٩٠.