نعم ، يصحّ ذلك في صفة الكلام من غير لزوم دور ؛ فإنّ صدق الرسول لا يتوقّف على كون المرسل متكلّما ؛ لصحّة الإرسال من غير تكلّم بأن ينصب ما يدلّ على المراد.
وقد يقال : لعلّ تمسّكهم بالأدلّة السمعيّة إنّما هو في عموم العلم وشموله لجميع الموجودات كلّيّة كانت أو جزئيّة ، فلا يلزم الدور ، فتأمّل.
وأمّا الثاني من الطريقين على إثبات علمه تعالى بذاته وبما سواه ـ وهو المختصّ بالحكماء ـ فتقريره أنّه تعالى مجرّد عن المادّة وغواشيها ؛ لأنّ ملابسة الغواشي المادّيّة نقص وحاجة ، فهي ممتنعة عليه تعالى ، وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ لما مرّ في مبحث التعقّل من مسألة العلم من مباحث الأعراض مستقصى.
ونقول هاهنا : إنّ حقيقة التعقّل إنّما هو حصول المجرّد لمجرّد سواء كان بقيامه به ـ كما في تعقّل النفس الناطقة لمعقولاتها ـ أو بنحو آخر كما في إدراكها لذاتها ، وكلّ مجرّد قائم بذاته ؛ فإنّ ذاته حاصلة لذاته ، غير فاقدة إيّاها بالضرورة ، فذاته ـ من حيث إنّها يصدق عليها أنّها مجرّدة حاصلة لمجرّد ـ هي معقولة ، ومن حيث إنّها مجرّدة قد حصل لها مجرّد هي عاقلة ، فكلّ مجرّد عاقل لذاته ، ومعقول لذاته.
قال الشيخ في التعليقات : إذا قلت : إنّي أعقل الشيء ، فالمعنى أنّ أثرا منه موجود في ذاته ، فيكون لذلك الأثر وجود ، ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الأثر لا في غيره ، بل فيه ، لكان أيضا يدرك ذاته ، كما أنّه لو كان وجوده لغيره أدركه الغير (١) انتهى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنّه تعالى عاقل لذاته وعالم بها ، ثمّ إنّه تعالى علّة لجميع ما سواه ؛ لكون جميع ما سوى الله ممكنات ؛ لبرهان التوحيد ـ على ما سيأتي ـ ولوجوب انتهاء الحاجة في الممكنات إلى واجب الوجود كما مرّ.
والعلم بالعلم يستلزم العلم بالمعلول. والمراد بها أنّ العلم التامّ بالعلّة ـ أي العلم
__________________
(١) « شرح المقاصد » ٤ : ١١٢.