القدماء في نفيهم علمه تعالى بما سوى ذاته كما شنع الغزاليّ في كتاب التهافت (١) على الفلاسفة بذلك ، وقال : إنّ جميعهم قائلون به إلاّ ابن سينا وصدّقه الحكيم ابن رشد في ذلك لكن قال : إنّ مرادهم أنّه لا يعلم الأشياء من خارج ذاته لئلاّ يلزم استكماله بالغير ، بل يعلمه من ذاته ، وأنّهم لا يقولون : إنّه يعلم غير ذاته لئلاّ يتوهّم أنّه يعلمه من خارج ذاته ، وأنّ ابن سينا أراد الجمع بين القول بأنّه لا يعلم غير ذاته ، وأنّه يعلم الأشياء كلّها بأنّه يعلمها من ذاته لا من خارج ذاته ، فهو لا يعلم ما هو خارج عن ذاته ، هذا.
وأمّا المعلّم الثاني ، فقال في كتاب الجمع بين الرأيين ما ملخّصه : أنّه لمّا كان البارئ ـ جلّ جلاله ـ بإنّيّته وذاته مباينا لجميع ما سواه وذلك له بمعنى أشرف وأفضل وأعلى بحيث لا يناسبه شيء في إنّيّته ولا يشاكله ولا يشبهه حقيقة ولا مجازا ، ثمّ مع ذلك لم يكن بدّ من وصفه وإطلاق اللفظ فيه من هذه الألفاظ المتواطئة عليه ؛ فإنّ الواجب الضروري أن يعلم أنّ مع كلّ لفظة نقولها في شيء من أوصافه معنى لذاته بعيد من المعنى الذي نتصوّره من تلك الألفاظ أشرف وأعلى حتّى إذا قلنا : إنّه موجود ، علمنا مع ذلك أنّ وجوده ليس كوجود سائر ما هو دونه ، وإذا قلنا : حيّ ، علمنا أنّه حيّ بمعنى أشرف ممّا نعلمه من الحيّ الذي هو دونه ، وكذلك الأمر في سائرها.
فحينئذ نقول : لمّا كان الله تعالى حيّا مريدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب أن يكون عنده صور ما يريد إيجاده في ذاته ، ولو لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد الحيّ فما الذي كان يوجده؟ وعلى أيّ مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت أنّ من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحيّ المريد ، لزمه القول بأنّ ما يوجده إنّما يوجده جزافا وعلى غير قصد ولا ينحو نحو غرض مقصود بإرادته ، وهذا من
__________________
(١) نقله عن ابن رشد في « تهافت التهافت » : ٣٤٣.