فيكون صدورها عنها كما تصدر الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض مثل الإحراق الصادر عن النار ، والتبريد عن الثلج ، فلا يكون صدورها من جهة العلم ، ومحال أن يصدر عن العالم ـ من جهة ما هو عالم ـ شيء لا يعلمه.
وإلى هذا أشار بقوله جلّ وعزّ : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١).
وأيضا فإنّ الجهل نقص ، والشيء الذي في غاية الفضيلة ليس يمكن أن يوجد فيه نقص ، فهذا أقوى الشكوك التي تلحق هذا الموضع ونحن نحلّها.
فنقول : إنّه لمّا كان الفاعل إنّما يعطي المفعول شبيه ما في جوهره ، وكان المفعول يلزم فيه أن يكون غيرا وثانيا بالعدد ، وجب ضرورة أحد أمرين :
إمّا أن يكون مغايرا له بالهيولى وذلك لازم متى كان المفعول هو الفاعل بالنوع من غير تفاضل بينهما بالصورة.
وإمّا أن يكون المغايرة التي بينهما في التفاضل في النوع الواحد ، وذلك بأن يكون الفاعل في ذلك النوع أشرف من المفعول ؛ فإنّ المفعول ليس يمكن فيه أن يكون أشرف من الفاعل بالذات ؛ إذ كانت ماهيّته إنّما تحصل عن الفاعل ، وإذا كان ذلك كذلك فهذه المبادئ التي ليست في هيولى إنّما يغاير فيها الفاعل المفعول والعلّة المعلول بالتفاضل في الشرف في النوع الواحد لا باختلاف النوعيّة.
ولمّا كان العقل الذي بالفعل منّا ليس شيئا أكثر من تصوّر الترتيب والنظام الموجود في هذا العالم ، وفي جزء جزء منه ، ومعرفة شيء شيء ممّا فيه بأسبابه البعيدة والقريبة حتّى العالم بأسره ، وجب ضرورة أن لا يكون العقل الفاعل لهذا العاقل منّا غير تصوّر هذه الأشياء ؛ ولذلك ما قيل : إنّ العقل الفاعل يعقل الأشياء التي هنا لكن يجب أن يكون يعقل هذه الأشياء بجهة أشرف ، وإلاّ لم يكن بيننا وبينه فرق ، ولقصور العقل الذي فينا احتاج في عقله إلى الحواسّ.
__________________
(١) الملك (٦٧) : ١٤.