الأشياء (١) من الترتيب والنظام الموجود فيها ، فإن كانت طبائع الموجودات جارية على حكم العقل ، وكان هذا العقل منّا مقصّرا عن إدراك طبائع الموجودات ، فواجب أن يكون هاهنا علم بنظام وترتيب هو السبب في النظام والترتيب والحكمة الموجودة في موجود موجود ، وواجب أن يكون هذا العقل للنظام الذي منه هو السبب في النظام الذي في الموجودات ، وأن يكون إدراكه لا يتّصف بالكلّيّة فضلا عن الجزئيّة ؛ لأنّ الكلّيّات معقولات تابعة للموجودات ومتأخّرة عنها ، وذلك العقل الموجودات تابعة له ، فهو عاقل ضرورة بعقله من ذاته النظام والترتيب الموجود في الموجودات لا بعقله شيئا خارجا عن ذاته ؛ لأنّه كان يكون معلولا عن الموجود الذي يعقله لا علّة له وكان يكون مقصّرا.
وإذا فهمت هذا من مذهب القوم فهمت أنّ معرفة الأشياء بعلم كلّيّ هو علم ناقص ؛ لأنّه علم لها بالقوّة ، وأنّ العقل المفارق لا يعقل إلاّ ذاته ، وأنّه بعقل ذاته يعقل جميع الموجودات ؛ إذ كان عقله ليس شيئا أكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات ، فإذا أنزلت أنّ العقل الذي هنالك شبيه بعقل الإنسان ، لحقت تلك الشكوك المذكورة ؛ فإنّ العقل الذي فينا هو الذي يلحقه التعدّد والكثرة ، وأمّا ذلك العقل ، فلا يلحقه شيء من ذلك ، وذلك أنّه بريء عن الكثرة اللاحقة لهذه المعقولات ، وليس يتصوّر فيه مغايرة بين المدرك والمدرك ، وأمّا العقل الذي فينا فإدراكه ذات الشيء غير إدراكه أنّه مبدأ للشيء وكذلك إدراكه غيره غير إدراكه ذاته بوجه ما ، ولكن فيه شبه من ذلك العقل وذلك العقل هو الذي أفاده ذلك الشبه.
بيان ذلك : أنّ العقل إنّما صار هو المعقول من جهة ما هو معقول ؛ لأنّ هاهنا عقلا هو المعقول من جميع الجهات ، وذلك أنّ كلّ ما وجدت فيه صفة ناقصة فهي موجودة له من قبل موجود فيه تلك الصفة كاملة ، مثال ذلك أنّ ما وجدت فيه حرارة
__________________
(١) في « شوارق الإلهام » : « طبائع الموجودات ».