كتعدّدها في العلم الإنسانيّ ، وذلك أنّه تعدّد ليس شأن العقل منّا إدراكه ، ولذلك أصدق ما قال القوم : إنّ للعقول حدّا تقف عنده ولا تتعدّاه وهو العجز عن التكييف الذي في ذلك العلم.
وإنّما امتنع عندنا إدراك ما لا نهاية له بالفعل ؛ لأنّ المعلومات عندنا منفصل بعضها عن بعض ، فأمّا إن وجد هاهنا علم يتّحد فيه المعلومات ، فالمتناهية وغير المتناهية في حقّه سواء ، هذا كلّه ممّا يزعم القوم أنّه ممّا قام البرهان عليه عندهم ، وإذا لم نفهم نحن من الكثرة في العلم إلاّ هذه الكثرة وهي منتفية عنه ، فعلمه واحد لكن تكييف هذا المعنى وتصوّره بالحقيقة ممتنع على العقل الإنسانيّ ؛ لأنّه لو أدرك الإنسان هذا المعنى ، لكان عقله هو عقل البارئ تعالى وذلك مستحيل.
ولمّا كان العلم بالشخص عندنا هو العلم بالفعل ، علمنا أنّ علمه هو أشبه بالعلم الشخصيّ منه بالعلم الكلّي وإن كان لا كلّيّا ولا شخصيّا. ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى : ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (١) وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وقال أيضا : القوم إنّما نفوا أن يعرف غيره من الجهة التي بها ذلك الغير أخسّ وجودا ؛ لئلاّ يرجع المعلول علّة والأشرف وجودا أخسّ وجودا ؛ لأنّ العلم هو المعلوم ، ولم ينفوه من جهة أنّه يعرف ذلك الغير بعلم أشرف وجودا من العلم الذي نعلم نحن به الغير ، بل واجب أن يعلمه من هذه الجهة ؛ لأنّها الجهة التي من قبلها وجود الغير عنه.
وبالجملة ، لئلاّ يشبه علمه علمنا ـ الذي في غاية المخالفة له ـ فابن سيناء إنّما رام أن يجمع بين القول بأنّه لا يعلم إلاّ ذاته ، ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف ممّا يعلمها به الإنسان ؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته ، وذلك بيّن من قوله : « إنّ علمه
__________________
(١) سبأ (٣٤) : ٣.