بنفسه وبغيره ـ بل بجميع الأشياء ـ هو ذاته. وإن كان لم يشرح هذا المعنى كما شرحناه وهو قول جميع الفلاسفة أو اللازم عن قول جميعهم.
ثمّ قال في موضع آخر : الكلام في علم البارئ تعالى بذاته وبغيره ممّا يحرّم على طريق الجدل في حال المناظرة فضلا عن أن يثبت في كتاب ؛ فإنّه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل هذه الدقائق ، وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهيّة عندهم ؛ فلذلك كان الخوض في هذا العلم محرّما عليهم ؛ إذ كان الكافي في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما أطاقته أفهامهم ، ولذلك لم يقتصر الشرع ـ الذي قصده الأوّل تعليم الجمهور في تفهيم هذه الأشياء في البارئ تعالى ـ بوجودها في الإنسان كما قال تعالى : ( لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) (١) بل واضطرّ إلى تفهيم معان في البارئ تعالى بتمثيلها في الجوارح الإنسانيّة مثل قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) (٢) وقوله : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) (٣) فهذه المسألة هي خاصّة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق.
ولذلك لا يجب أن تثبت في كتاب إلاّ في الموضوعة على الطريق البرهانيّ ، وهي التي شأنها أن تقرأ على ترتيب بعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهانيّ إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلّة وجود هذه الفطرة في الناس.
فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي تلك الأشياء سموم لها فإنّ السموم إنّما هي أمور مضافة ؛ فإنّه قد يكون سمّا في حقّ حيوان شيء هو غذاء في حقّ حيوان آخر ، وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان.
ثمّ قال : ولكن إذا تعدّى الشرير الجاهل فسقى السمّ من هو في حقّه سمّ على أنّه
__________________
(١) مريم (١٩) : ٤٢.
(٢) يس (٣٦) : ٧١.
(٣) ص (٣٨) : ٧٥.