غذاء ، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد بضاعته في شفائه ، ولذلك استجزنا نحن التكلّم في مثل هذه الكلّيّات ، وإلاّ فما كنّا نرى أنّ ذلك يجوز لنا ، بل هو من أكبر المعاصي أو من أكبر الفساد في الأرض ، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة ، وإذا لم يكن بدّ من الكلام في هذه المسألة ، فلنقل في ذلك بحسب ما تبلغه قوّة الكلام في هذا الموضع ، فنقول :
إنّ القوم لمّا نظروا إلى جميع المدركات ، وجدوا أنّها صنفان : صنف مدرك بالحواسّ وهي أجسام قائمة بذواتها ، مشار إليها ، وأعراض مشار إليها في تلك الأجسام. وصنف مدرك بالعقل وهي ماهيّات تلك الأمور المحسوسة وطبائعها أعني الجواهر والأعراض ، فلمّا تميّزت لهم الأمور المعقولة من الأمور المحسوسة وتبيّن لهم أنّ في المحسوسات طبيعتين : إحداهما قوّة ، والأخرى فعل ، نظروا أيّ الطبيعتين هي المتقدّمة للأخرى ، فوجدوا أنّ العقل مقدّم على القوّة ؛ لكون الفاعل متقدّما على المفعول ، ونظروا في العلل والمعلولات أيضا فأفضى بهم الأمر إلى علّة أولى هي بالفعل السبب الأوّل لجميع العلل ، فلزم أن تكون فعلا محضا ، وأن لا يكون فيها قوّة أصلا ؛ لأنّه لو كان فيها قوّة ، لكانت معلولة من جهة وعلّة من جهة ، فلم تكن أولى.
ولمّا كان كلّ مركّب من صفة وموصوف فيه قوّة وفعل ، وجب عندهم أن لا يكون الأوّل مركّبا من صفة وموصوف.
ولمّا كان كلّ بريء عن القوّة عندهم عقلا وجب أن يكون الأوّل عندهم عقلا ، فهذه هي طريقة القوم بجملة ، فإن كنت من أهل الفطرة المعدّة لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات والفراغ ، ففرضك أن تنظر في كتب القوم وعلومهم لتقف على ما في علومهم من حقّ أو ضدّه ، وإن كنت ممّن نقصك واحد من هذه الثلاث ففرضك أن تفرغ في ذلك إلى ظاهر الشرع ولا تنظر إلى هذه العقائد المحدثة في الإسلام ؛ فإنّك إن كنت من أهلها لم تكن من أهل اليقين ، فهذا هو الذي حرّك القوم أن يعتقدوا أنّ هذه الذات ـ التي وجدوا أنّها مبدأ العالم ـ بسيطة ، وأنّها علم وعقل.