بكون ذاته تعالى علما تفصيليّا بجميع الأشياء وأنّه متفرّد من بين الفلاسفة بذلك ولم ينسب إليه القول بحصول الصور في ذاته ، وصدّقه ابن رشد في ذلك النقل (١) إلاّ أنّه جعله موافقا للفلاسفة في ذلك على ما مرّ ، فلو لا أنّ مراد الشيخ هو ما ذكرنا ، لما صحّ ذلك النقل وتصديقه فيه مع كون كتبه ورسائله مشحونة بحديث الصور على ما عرفت ، وعلى هذا يكون ما مرّ غير مرّة في كلام الشيخ ـ من أنّ اتّصافه تعالى بتلك الصور إنّما هو من حيث هي حاصلة فيه أو أنّها حاصلة فيه من ذاته لا من غيره وأمثال ذلك ـ إشارة إلى أنّ المراد من الحصول هاهنا ليس هو المعنى المشهور المتبادر ، بل هو معنى آخر ، فليتأمّل جدّا.
وهذا هو الكلام في العلم بالكلّيّات والطبائع المرسلة والجزئيّات المجرّدة ، وهذا العلم ثابت دائما غير متغيّر أصلا كالمعلوم.
[ في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات الماديّة المتغيّرة ]
وأمّا العلم بالجزئيّات المادّيّة المبدعة والحادثة المتغيّرة ، فقد يكون أيضا دائما غير متغيّر وإن تغيّر المعلوم وذلك إذا كان العلم بها حاصلا من أسبابها وعللها المتأدّية إليها ، فيكون تعقّلا وغير محتاج إلى آلة ، وقد يكون متغيّرا ، فيكون حادثا بعد ما لم يكن ، وزائلا بعد ما كان ، وذلك إذا كان حاصلا من وجوداتها ، فيكون إحساسا ومحتاجا إلى آلة ، وعلم البارئ تعالى بالأشياء لمّا لم يجز أن يكون حاصلا له من وجودات الأشياء ـ لما عرفت ـ وجب أن يكون علمه بالجزئيّات حاصلا له من ذاته التي هي علّة للوجودات كلّها فينتهي إليها سلسلة العلل والأسباب ، فيكون تعقّلا ويكون ثابتا غير متغيّر أصلا وإن تغيّر المعلوم ؛ فإنّه تعالى يعلم كلاّ في وقته علما ثابتا قبل ذلك الوقت وفيه وبعده ، فيعلم وجوده بالأسباب المتأدّية إليه وعدمه بالأسباب المعدمة له ، ولا يتوقّف علمه بالوجود إلى حضور الآن والزمان الذي
__________________
(١) انظر ص ١٩٠ ـ ١٩١ من هذا الجزء.