وأمّا الحكماء ، فالظاهريّون من المنتسبين قالوا : إنّه تعالى عالم بالجزئيّات على الوجه الكلّيّ لا على الوجه الجزئيّ ، فقيل لهم : لا يمكن أن ينكر وجود الجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة إلى البارئ تعالى الذي هو مبدؤه وعلّته الأولى ، وعندكم أنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، وأنّ علم البارئ تعالى بذاته أتمّ العلوم ، فأنتم بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ؛ إذ من الممتنع أن يستثنى من الأحكام الكلّيّة العقليّة بعض جزئيّاتها الداخلة فيها ، كما يستثنى في الأحكام النقليّة بعضها ؛ لتعارض الأدلّة السمعيّة ، فهذه هي المذاهب المشهورة.
وأمّا التحقيق في هذا الموضع فيحتاج ـ كما تقدّم ـ إلى لطف قريحة.
ثمّ قال ـ بعد تمهيد مقدّمة محصّلها : أنّ الكثرة العدديّة إمّا أن تكون آحادها غير قارّة ، أو تكون قارّة.
والأوّل : لا يمكن أن يوجد إلاّ مع زمان ، أو في زمان ؛ لأنّ العلّة الأولى للتغيّر على هذا الوجه في الوجود هو الموجود غير القارّ لذاته الذي يتصرّم ويتجدّد على الاتّصال وهو الزمان.
والثاني : لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكان ، أو مع مكان ؛ لأنّ العلّة الأولى للكثرة على هذا الوجه إنّما هو الموجود الذي يقبل الوضع لذاته ويلزمه التجزّؤ بأجزاء مختلفة الأوضاع وكلّ موجود يكون شأنه ذلك فهو مادّي ، فالطبائع إذا تحصّلت في أشخاص كثيرة ، يكون الأسباب الأولى لتعيّن أشخاصها إمّا الزمان كما للحركات ، أو المكان كما في الأجسام ، أو كليهما كما في الأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع من الأنواع. وما لا يكون زمانيّا ولا مكانيّا فلا يتعلّق بهما ، ويتنفّر العقل من استناده إليهما كما إذا قيل : الإنسان من حيث طبيعته الإنسانيّة متى يوجد؟ أو أين يوجد؟ أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون؟ أو في أيّ بلدة