أمّا البارئ تعالى ، فكلّ من يعتقد أنّه جسم أو مباشر للأجسام ، فقد يمكن له أن يصفه بالإدراك الحسّيّ ، وكلّ من ينزّهه عن ذلك ، ينزّهه أيضا عن هذا الوصف.
ولمّا كان السمع والبصر ألطف الحواسّ وأشدّها مناسبة للعقل ، عبّر بهما عن العلم في كثير من المواضع ، كما في قوله عزّ من قائل : ( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) (١) وقوله تعالى : ( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٢) وفي غير ذلك من المواضع التي لا يمكن أن تعدّ ، ولذلك وصفوا البارئ تعالى بالسميع والبصير دون الشامّ والذائق واللاّمس ، وعنوا بهما العلم بالمسموعات والمبصرات وفرّقوا بين السامع والسميع ، والمبصر والبصير ، وجميع ذلك من المباحث اللفظيّة ، وأكثر المتكلّمين يخصّصون الإدراك بالحسّ ويتنازعون في جواز وصف البارئ تعالى به ، ثمّ في المراد منه إذا وصفوه به ، فيذهب بعضهم إلى الإحساس ، وبعضهم إلى العلم بالمحسوسات (٣). انتهى.
فقوله : ( والعقل على استحالة الآلات ) إشارة إلى تنزيهه تعالى عن الجسميّة ومباشرة الأجسام ، فوجب من مجموع الدلالتين القول بكونه سميعا بصيرا من دون آلة وجارحة.
وفي قوله : والسمع دلّ ، إشارة إلى ضعف ما استدلّ به بعضهم على كونه تعالى سميعا بصيرا وهو أنّه حيّ ، وكلّ حيّ يصحّ اتّصافه بالسمع والبصر ، وكلّ ما يصحّ في حقّه تعالى ، يجب أن يكون ثابتا له بالفعل ؛ لبراءته عن القوّة والإمكان ، وذلك لتوقّفه على أنّ الحياة في الغالب تقتضي صحّة السمع والبصر.
وغاية متشبّثهم في ذلك إمّا طريق السبر والتقسيم على ما ذكره إمام الحرمين (٤) ؛ فإنّ الجماد لا يتّصف بقبول السمع والبصر ، وإذا صار حيّا اتّصف بهما إن لم يقم به
__________________
(١) الملك (٦٧) : ١٠.
(٢) الأعراف (٧) : ١٩٨.
(٣) « شرح رسالة العلم » : ٣٧ ـ ٣٨.
(٤) « شرح المقاصد » ٤ : ١٣٩.