ذهب الأشاعرة إلى أنّه تعالى يجوز أن يرى ، وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّها عن المقابلة والجهة والمكان. وخالفهم في ذلك جميع الفرق ؛ فإنّ المشبّهة والكراميّة إنّما يقولون برؤيته في الجهة والمكان ؛ لكونه عندهم جسما ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ولا نزاع للنافين في جواز الانكشاف التامّ العلميّ ، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة من المرئيّ في العين ، أو اتّصال الشعاع الخارج من العين بالمرئيّ ، وإنّما محلّ النزاع أنّا إذا عرفنا الشمس ـ مثلا ـ بحدّ أو رسم ، كان نوعا من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعا آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسمّيها الرؤية ولا يتعلّق في الدنيا إلاّ بما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكيّة هل يصحّ أن يقع بدون المقابلة والجهة وأن يتعلّق بذات الله تعالى منزّها عن الجهة والمكان ، أولا؟
ولهم على الإمكان من المنقول قوله تعالى حكاية عن موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (١).
والاحتجاج من وجهين :
أحدهما : أنّ موسى عليهالسلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيّا ، لما سأل ؛ لأنّه حينئذ إمّا أن يعلم امتناعه ، أو يجهله ، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال ؛ لأنّه عبث ، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله تعالى ويمتنع لا يكون نبيّا كليما ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه ، بل ينبغي أن لا يصلح للنبوّة ؛ إذ المقصود من البعث هو الدعوة إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة.
وثانيهما : أنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ؛ لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير.
__________________
(١) الأعراف (٧) : ١٤٣.