والحقّ أنّ العقل يدرك حسن التكاليف الشرعيّة بالنظر ، لا بالبديهة ، والدليل على حسنها أنّ النفس الناطقة ، لها قوّة عقليّة معدّة لتحصيل المعرفة واستحقاق القرب إلى ربّ العالمين ، وقوّة شهويّة يحفظ بها أمور نظام البدن التي يكون الغرض الأصليّ منها حفظ وجود الشخص والنوع. وأمّا سائر القوى ، فبعضها من أعوان الأولى ، وبعضها من أعوان الثانية ، وقد يصير الثانية أيضا بنوع من التدبير من أعوان الأولى من غير أن يحصل الضرر فيما هو الغرض منها ، وأقلّ مرتبة الإعانة أن لا تعارضها ولا تمنعها عمّا هو الغرض الأصليّ منها ، وقد يعكس الأمر ، فيبطل ما هو الغرض الأصليّ من إعطاء القوّة العقليّة ، بل ما هو الغرض من خلق الإنسان وإعطاء جميع القوى وهو استحقاق القرب إلى جوار ربّ العالمين ، فلا بدّ من التدبير المذكور ، وكيفيّة ضبط القوّة الشهويّة عن الميل إلى طرفي الإفراط والتفريط المؤدّي أوّلهما إلى فوات ما هو الغرض الأصليّ من العقليّة ، وثانيهما إلى فوت ما هو الغرض الأصليّ منها ، بل ما هو الغرض الأوّلي أيضا.
وذلك الضبط لا يمكن على وجه الكمال لأحد إلاّ بتعريف إلهي بالأمر والنهي اللذين يعبّر عنهما بالتكليف الشرعيّ ، فصدور التكليف عن الواجب تعالى حسن عقلا ؛ لاشتماله على فائدة عظيمة لا تحصل بدونه.
ويشترط فيه تقدّمه على زمان الفعل ليتهيّأ المكلّف له ، وإمكان ذلك الفعل ؛ لقبح التكليف بالمحال ، وعلم المكلّف بحسن الأفعال وقبحها ؛ لئلاّ يأمر بقبيح ، ولا ينهى عن حسن ، ويجزي على قدره ، ولا ينقص في الثواب ، ولا يزيد في العقاب ، وقدرة المكلّف على الفعل ، وإمكان تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لقبح تكليف العاجز عن الفعل ، أو عن العلم بكيفيّته ، فلا بدّ من كون المكلّف عالما بقدرة المكلّف على الفعل وعلى تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لئلاّ يصدر منه التكليف القبيح ، هذا كلّه مضافا إلى أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابل النصّ من الكتاب والسّنّة الإسكاتيّة والسكوتيّة ،