ووجه جواز الأخير (١) أنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ اليسير [ أقبح ] (٢) وارتكاب أقلّ القبيحين جائز عقلا ، فصدور الشرّ بالذات محال من الواجب وإن كان قليلا. وأمّا صدوره منه بتبعيّة الخير فلا ، فجميع الشرور صدوره من هذا الباب ، فلا يلزم إسناد الشرور بالذات إلى الواجب ، ولا القول بوجود إلهين ، بل الحقّ أنّ الشرور ليست مستندة إلى الواجب إلاّ باعتبار أنّ فاعلها مستند إليه ، وهذا ليس استنادا في الحقيقة.
وأمّا القضاء والقدر ، فقد وقع الاتّفاق ، ووردت الأخبار على أنّ الحوادث تحدث بهما (٣) ، ومن جملتها أفعال العباد ، فيلزم عدم اختيارهم فيها ؛ لأنّ المقدّر كائن ، فهذا منشأ الإشكال.
والجواب : أنّ القضاء له معان :
منها : الخلق ، كما في قوله تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (٤) وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (٥) وهذا المعنى لا يتحقّق في جميع الحوادث ؛ إذ قد بيّنّا أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله.
والثاني : الإيجاب والإلزام ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٦) أي أوجب ، وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) (٧) أي ألزمناه. وهذا المعنى لا يكون عامّا ؛ لاختصاصه بالواجب.
والثالث : الإعلام والتبيين ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) (٨) الآية.
__________________
(١) أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.
(٢) أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.
(٣) انظر « الكافي » ١ : ١٥٥ ـ ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ؛ « التوحيد » : ٣٥٩ ـ ٣٩٠ بابا نفي الجبر والتفويض ، والقضاء والقدر.
(٤) فصّلت (٤١) : ١٢.
(٥) فصّلت (٤١) : ١٠.
(٦) الإسراء (١٧) : ٢٣.
(٧) الواقعة (٥٦) : ٦٠.
(٨) الإسراء (١٧) : ٤.