أراد أن يشير إلى حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام.
بيان ذلك : أنّ الله خلق الإنسان بحيث لا يستقلّ وحده بأمور معاشة ؛ لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح ، وغير ذلك من الأمور التي كلّها صناعيّ لا يقدر عليها صانع واحد مدّة حياته ، وإنّما تيسّر بجماعة يتعاضدون ويتشاركون في تحصيلها ، بأن يعمل كلّ لصاحبه بإزاء ما يعمل له الآخر ، مثلا يزرع ذاك لهذا ، ويخبز هذا لذاك ويخيط واحد لآخر ، ويتّخذ الآخر الإبرة له ، وعلى هذا قياس سائر الأمور ، فيتمّ أمر معاشه باجتماع من بني نوعه.
ولهذا قيل : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ؛ فإنّ التمدّن باصطلاحهم عبارة عن هذا الاجتماع ، وهذا الاجتماع لا ينتظم إلاّ إذا كان بينهم معاملة وعدل ؛ لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من يزاحمه فيه ، وذلك يدعوه إلى الجور على الغير ، فيقع من ذلك الهرج والمرج ، فيختلّ أمر الاجتماع ونظامه ، وللمعاملة والعدل جزئيّات غير محصورة لا تنضبط إلاّ بوضع قوانين هي السنّة والشرع ، فلا بدّ من شارع ليسنّ السنن وذلك على الوجه الذي ينبغي.
ثمّ إنّهم لو تنازعوا في وضع السنّة لوقع الهرج ، فينبغي أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة لينقاد الباقون له في قبول السنّة والشرع منه ، وهذا الاستحقاق إنّما يتقرّر باختصاصه بآيات تدلّ على أنّه من عند الله ، وتلك هي المعجزات.
ثمّ إنّ الجمهور من الناس يستحقرون اختلال (١) الشرع إذا استولى عليهم الشوق إلى مشتهياتهم ، فيقدمون على المعصية ومخالفة الشرع ، فإذا كان للمطيع ثواب ، وللعاصي عقاب يحملهم الخوف والرجاء على الطاعة وترك المعصية ، كان انتظام الشريعة أقوى ممّا إذا لم يكن كذلك ، فوجب عليهم معرفة الشارع والمجازي.
ولا بدّ من سبب حافظ لتلك المعرقة ؛ فلذلك شرعت العبادات المذكّرة لصاحب
__________________
(١) في المصدر : « إخلال ».