عليه أمر معادهم ، ويسمّى ذلك الموضع مدينة.
وكون الإنسان مدنيّا عبارة عن احتياجه إلى الكون في المدينة لينتظم أمر معاشه ومعاده ، ولمّا كان اجتماعهم ـ من جهة كونهم ذوي غضب وشهوة ـ موجبا لوقوع الفتنة والظلم ، والهرج والمرج الموجبة لاختلال نظام أمر المعاش والمعاد ، وبطلان فائدة الاجتماع والتمدّن ، فلا بدّ من العدل الذي هو عبارة عن تسوية الحقوق ، وإحقاق الحقّ منها جزئيّات العدل في الحقوق الجزئيّة ، فلا بدّ من واضع وجاعل يقرّرها بحيث لا يمكن لأحد التخلّف عنها إلاّ وقد لزمه الهلاك ، فلا بدّ أن يكون ذا قدرة ؛ ليطيعه الناس طوعا وكرها ، ويكون أوامره ونواهيه نافذة في الناس ، ولا يمكن ذلك إلاّ بتأييد من الله بالآيات والمعجزات ؛ لئلاّ يكون لغيره له منازعة في استحقاق هذه الرئاسة العامّة. والمراد من النبيّ ليس إلاّ مثل هذا الفرد.
الخامسة : اشتمالها على اللطف ؛ إذ الإخبار بالثواب على الواجبات والعقاب على المنهيّات ، مقرّب إلى الطاعات ومبعّد عن المعاصي ، وحيث كان اللطف واجبا على الله كانت البعثة واجبة عليه تعالى.
والحاصل : أنّ بعثة الأنبياء لطف متمّم للغرض من جهة اقتضائها تنبيه العقول وتقويتها في العقائد ، وإرشاد الناس إلى المنافع الجسمانيّة والروحانيّة المعاشيّة والمعاديّة ، ومضارّهم كذلك. وحفظ نوع الإنسان الذي هو مدني بالطبع محتاج إلى الاجتماع في المكان والكون في المدينة ؛ لانتظام أمر المعاش والمعاد الموجب لوقوع الفتنة من جهة وقوع الغضب والشهوة المحتاج إلى مقنّن القوانين الرافعة لها ولو بالقهر والغلبة المعلوم كونه من جانب الله ، وصاحب العصمة المتمّمة للغرض بالمعجزة نقلا بما ورد في الكتاب والسنّة ، فإنّه قد قال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (١). وقال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا
__________________
(١) النساء (٤) : ١٦٥.