فان قلت : إذا كان شيء متقدّما على آخر فلا محالة يكون بالقياس إلى ثالث ـ ويقال لهذا الثالث : « ملاك التقدّم » ـ ، واتّفق العقلاء على أنّ اقسام التقدّم باعتبار الملاك لا يزيد على خمسة أنواع :
الأوّل : التقدّم المكاني ، كالجالس في الصدر على من في صفّ النعال. وملاكه صدر المكان ؛
والثاني : التقدّم الزماني ، وملاكه صدر الزمان. وهو فيما بين اجزاء الزمان بالذات وفيما بين الحوادث الزمانية بالتبع ، فهو تقدّم واحد يتقدّم به اجزاء الزمان بالذات والزمانيات بالعرض. كالتقدّم بحسب الامكنة ، فان التقدّم لأجزاء المكان بالذات وللمتمكّنين بالعرض ، ومثله حركة جالس السفينة. والمتكلّمون جعلوا هذا القسم قسمين وسمّوا التقدّم بين اجزاء الزمان تقدّما بالذات ، والتقدّم بين الموجودات الزمانية تقدّما بالزمان ، وهو تكلّف بلا فائدة! ؛
والثالث : التقدّم بالشرف ، وهو الّذي يكون بين الأشياء باعتبار صفاتها شريفة كانت أو خسيسة ، وسمّوه بالشرف تغليبا. وملاكه تلك الصفة ؛
والرابع : التقدّم بالطبع ، وهو الّذي للعلّة الناقصة على معلولها ، وملاكه الوجود ؛
والخامس : التقدّم بالعلّية وبالذات ، وهو تقدّم العلّة التامّة على معلولها. وملاكه الوجوب ، لأنّ بوجوبها يجب عنها المعلول من غير تخلّف ، بخلاف الناقصة ، فانّ لوجوبها فقط لا يجب عنها المعلول ما لم يجتمع جميع ما يحتاج إليه فتصير تامّة. وقد يقال للأخيرين جميعا : بالذات وبالطبع أيضا بإطلاق أعمّ. فهذه أقسام التقدّم الّتي ذكرها العقلاء ولم يزيدوا عليها شيئا ، والتقدّم الدهري ليس شيئا منها ، فلا يكون صحيحا! ؛
قلت : عدم ذكر الشيء لا يدلّ على البطلان ، وكم ترك الأوّل للآخر!.
فان قلت : التقدّم بالذات ليس تقدّما بمجرّد العقل ، بل هو أمر حقّ ثابت في نفس الأمر وفي محض الوجود والذات ، ولو فرض عدم العقول والأذهان فانّ حركة اليد بنفس ذاتها وصرف وجودها أصل لحركة المفتاح مفيضة لها وهي في حاقّ