فمناط علم الواجب بالأشياء قبل ايجادها هو حضور علمها ، بل الأمر كذا بعد ايجادها أيضا. فمناط العلم الواجبي بالأشياء بعد ايجادها ليس هو حضور نفس الأشياء الخارجية وحصول صورها في جوهر عقلي حاضر عنده ، بل الحقّ انّ مناط علمه المطلق الّذي ليس إلاّ تفصيليا ليس سوى ذاته بذاته. وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بالعلم الاجمالي لا ينفع في دفع هذا الاشكال وغيره من الاشكالات ، فانّ كلّ ما يمكن أن يقال في دفع الاشكالات الموردة على العلم إذا جعل العلم السابق (١) اجماليا يمكن أن يقال بعينه إذا جعل ذلك العلم تفصيليا ، فهما في ذلك سيّان فأيّ حاجة إلى القول بالعلم الاجمالي مع استلزامه للمفاسد المذكورة؟!.
فالحقّ ـ كما قيل ـ : انّه لا يصحّ أن يكون الاجمال والتفصيل وصفين لعلمه ـ سبحانه ـ ، بل هما وصفان للاشياء باعتبار الشهود العلمي والشهود الخارجي ، فباعتبار الشهود العلمي يكون جميع الأشياء في درجة واحدة بحيث لا يكون لواحد منها تقدّم على الآخر باعتبار العلم بها ، فكان الجميع أمرا واحدا ؛ وباعتبار الوجود الخارجى امور متفاصلة متفارزة ويكون لبعضها تقدّم على الآخر. قال بعض الاعلام : انّ الواجب ـ تعالى ـ في مقام ذاته المقدّسة كلّ الأشياء ـ كما اشار إليه المعلم الثاني بقوله : « فهو الكلّ في وحدة » ، أي : هو عين الأشياء حالكونه واحدا ـ ، فحضور ذاته بذاته لذاته نفس حضور الكلّ على وجه أعلى وأشرف ، بمعنى انّ كلّ فعلية ووجود مستهلك ومندرج في شعاع ذاته ، أي هو محيط بالكلّ احاطة معنوية لا كاحاطة النواة على الشجرة النخلة أو احاطة الظرف على المظروف أو الكلّي للجزئي أو المكان للمتمكّن والزمان للزماني ـ تعالى الله عن ذلك ـ لنقص المحيط في كلّ منها ، بل احاطة كمالية بأن ظهر مع تنزّهه عن الكثرة والامكان ، بل عن كلّ شيء ونقصان في كلّ ، فهو بعلمه لذاته الّذي هو نفس ذاته ونور كلّ شيء وظهوره ـ كما قال : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ) (٢) الآية ـ يعلم الكلّ بذاته. ووجوب المغايرة بين حضور الواجب وحضور الغير إنّما يكون في مقام الكثرة والتفصيل ، لا في مقام الجمع والاجمال ، فانّ مقام الجمع عين وجود كلّ شيء
__________________
(١) الاصل : ان يقال.
(٢) كريمة ٣٥ ، النور.