ولم لا يمكن أن يكون الادراك موقوفا على خاصية مجهولة الكنه وقوّة غير معلومة لنا ـ كالخاصيات والقوى المودعة في المشاعر الظاهرة والباطنة ـ ، فاذا وجدت هذه الخاصية والقوّة وجد الادراك والتعقّل ـ سواء كانت في المجرّد أو غير المجرّد ـ؟!.
وأجيب عن الايراد المذكور : بأنّ المانع من التعقّل والانكشاف انّما هو المادّة وعلائقها ، فالشيء الّذي كان مجرّدا نورانيا يكون عالما بذاته لظهور ذاته لذاته ، لانّ الانكشاف هو ضدّ الخفاء والخفاء على الشيء امّا بسب ضعف نوريته وقلّة وجوده ونقص جوهره ـ كالهيولى الجسمية ـ أو بسبب ما يكثفه من الأغشية واللبوسات ـ كالأشخاص الجسمية ـ ؛ والمجرّد ليس كذلك ، / ١١٦ MB / فيلزم أن لا يخفى ذاته عن ذاته. قال بهمنيار في التحصيل : ولمّا كان وجود المحسوس والمعقول في ذاته وجوده لمدركه وكان وجوده لمدركه نفس محسوسيته ومعقوليته لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته. ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته ، فهو مدرك ذاته ، إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ؛ فالأمور الّتي تدرك ذواتها لا يصحّ أن تكون مقارنة لمادّة وإلاّ لكان وجودها لغيرها. وأمّا الأمور المجرّدة عن المادّة فانّها يجب أن تدرك ذواتها ، وإلاّ لكان وجودها لغيرها ، فكلّ ما هو محجوب عن ذاته فلمقارنة المادّة هو غير مدرك ذاته. ويشهد بهذا انّ القوى الحسّية ـ كالبصر واللمس والذوق ـ لا تدرك ذواتها ، لكونها موجودا بمحالها الّتي هى تلك الاعضاء لا لذاتها (١) ؛ انتهى.
وهذا المضمون الّذي ذكره بهمنيار قد ذكره غيره أيضا من الحكماء. ولا بدّ لنا أن نوضح المراد منه أوّلا ثمّ نشير إلى انّه هل هو حقّ أم لا. فنقول :
الوجود امّا وجود في نفسه ـ كوجود الجسم ـ ويسمّى « وجودا محموليا » ، أو وجود لغيره ـ كوجود البياض للجسم ، ووجود الشاعرية لأوميرس ـ ، ويسمى هذا الوجود « وجودا رابطيا » ، كقولنا : الجسم كائن أبيض. وأوميرس موجود شاعر. فانّ لفظي « كائن » و « موجود » إنّما هو لمجرّد الحمل والرابطة والمطلوب من ادخالهما بين
__________________
(١) راجع : التحصيل ، ص ٤٩٣. والسطر الأخير ـ أي : من قوله : لكونها موجودا ... إلى قوله : لا لذاتها ـ لا يوجد في المطبوع من التحصيل.