ثمّ لمّا كان غرض بهمنيار من ذكر هاتين المقدّمتين ـ بأيّ معنى أخذناهما ـ بيان أنّ التعقّل لا يمكن أن يكون للمادّي بل انّما هو للمجرّد ، فلذا رتّب عليهما أوّلا عدم كون المادّي مدركا لذاته ، فقال : « لم يصح أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ، أي : لمّا كان وجود المحسوس من حيث هو محسوس ووجود المعقول من حيث هو معقول أو وجودهما في أنفسهما عين وجودهما لمدركهما لم يصحّ أن يكون ما وجوده لغيره مدركا لذاته ». والمراد « بما وجوده لغيره » كلّ ما يكون في الوجود محتاجا إلى الغير وثابتا له ـ وهو المقارن للمادّة ـ ، أو ما يكون حالاّ في غيره وان كان مجرّدا ـ كالصورة العقلية الكلّية ـ. أمّا على الوجه الأوّل فلانّه لو كان مدركا لذاته كان ذاته مدركة معقولة له بمعنى معقوليته ومدركيته ـ أعني : كونه موجودا من حيث هو معقول كون وجوده لمدركه أي لذاته ـ مع انّه فرض وجوده لغيره ـ أعني : الموضوع أو المحلّ ـ. والحاصل : انّه لما فرض انّ وجود المحسوس والمعقول في ذاته هو وجوده لمدركه يجب أن يكون المدرك شيئا يكون وجوده لنفسه حتّى يكون وجود المعقول له ، إذ لولاه لزم أن لا يكون وجود ذلك المعقول لذلك المدرك ، بل لمحلّه ، فلا يكون وجود المحسوس والمعقول في ذاتهما وجودهما لمدركهما ؛ وهو خلاف الفرض. وأمّا على الوجه الثاني فلأنّه لو كان مدركا لذاته لكان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ مع أنّ وجوده لغيره.
ثمّ قال : « ومدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده ادراكه لذاته » ؛ والسرّ في ذلك على الوجه الأوّل انّ ادراكه لذاته ـ أي : اعتبار وجوده من حيث هو معقول ـ يؤول إلى وجوده لمدركه ـ أي : لذاته ـ ، فيكون نفس وجوده لذاته عبارة عن ادراكه لذاته ؛
وعلى الوجه الثاني فلانّه إذا كان وجوده في نفسه عين وجوده لمدركه فيكون نفس وجوده هو مدركيته لذاته ، فيكون نفس وجوده هو ادراكه لذاته أيضا ، لانّ مآل مدركيته لذاته وادراكه لذاته واحد.
ثمّ قال : « وكلّما وجوده لذاته فهو مدرك ذاته » ؛ إذ ليس وجوده إلاّ كونه مدركا ـ بصيغة المفعول ـ. وذلك لانّ معنى المدركية والمعقولية هو كون الشيء موجودا بصورته أو بذاته لموجود قائم بذاته ، وكلّ ما وجوده لذاته يكون ذاته موجودة لذاتها القائمة