الصغرى بديهية والكبرى هو الاصل الّذي اثبته الحكماء ، والنتيجة تحصل بملاحظة صحّة العكس ، مع انّ المنطقيين مصرّحون بأنّ الموجبتين في الشكل لا ينتجان. وبالجملة لا يحكم بأنّ كلّ مجرّد عن المادّة فهو معقول لأجل انعكاس الموجبة الكلّية موجبة كلّية ، لعدم تحقّقه. والحكماء أيضا لم يحكموا بانّ كلّ مجرّد معقول بالفعل في بادي النظر من دون دليل خارجي ليلزم عليهم الاشكالان ، بل قالوا : لأنّ ما هو مجرّد عن الموادّ إمّا أن يصحّ أن يعقل أولا يصحّ أن يعقل ، ومحال أن لا يصحّ أن يعقل ـ إذ كلّ موجود يصحّ أن يعقل ـ ، فاذن صحّة معقوليته إمّا بأن لا يتغير فيه شيء حتّى يصير معقولا بالفعل ـ بمعنى انّه مع فرض عدم تغير ما فيه من المعقولية بحيث لو كان هناك عاقل لعقله بدون حاجة إلى تجريده وإن كان معقوليته بالفعل موقوفا على تحقّق عاقل ـ أو بان يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا ـ كالحال في المعقولات بالقوّة الّتي تحتاج إلى مجرّد يجرّدها عن المادّة حتّى تصير معقولة ـ. لكن هذا الحكم ـ أي : التغير بالتجريد ـ لا يصحّ في المجرّد بالفعل ، لانّ المجرّد بالفعل حيث غشيته العوارض المادّية لا تحتاج إلى أن تغير فيه شيء حتّى تصير معقولا بالفعل ، ولا يحتاج العاقل له إلى تقشيره عنها حتّى يصيّره معقولا ويخلّص إلى حاقّ كنهه ، فهو اذن معقول بالفعل ، وإذا كان معقولا بالفعل فيكون عاقلا لذاته بالفعل ، إذ لو لم يكن عاقلا لذاته بالفعل لكان معقولا بالقوّة ، وقد فرضناه معقولا بالفعل ؛ هذا خلف!. هذا هو توضيح ما ذكره بقوله : « ثمّ ليس ينعكس الموجبة الكلّية ـ ... إلى آخره ـ ».
ويرد عليه : أمّا أوّلا : انّا لا نسلّم انّ مجرّد التجرّد وعدم العوارض المادّية كاف للمعقولية والعاقلية حتّى لا يحتاج المجرّد بالفعل إلى تغير حتّى يصير معقولا. بل لعلّهما يشترطان بشيء آخر أو يكون معنى آخر سوى المادّية مانعا عنهما ؛
وأمّا ثانيا : انّه لم يظهر ممّا ذكره هنا الاّ انّ المجرّد بالفعل مع عدم تغيره معقول ، بمعنى انّه لا مانع من معقوليته حتّى انّه لو فرض عاقل يعقله بلا حاجة إلى أن يتغيّر فيه شيء ، لانّه معقول بالفعل بمعنى انّه تحقّق أيضا عاقل بعقله ؛ وحينئذ فقوله : « فهو اذن معقول بالفعل » إن أراد به انّه معقول بالفعل لعاقل آخر غير ذاته فهو يتوقّف على فرض عاقل آخر هناك ليصير معقولا بالفعل ، مع انّه لا يتمّ التقريب حينئذ ؛