برؤية ذاته ـ سبحانه ـ في الآخرة بلا كمّ وكيف ، ففيه : أنّه لا يمكن رؤية ذاته ـ سبحانه على ما بيّن بالأدلّة القاطعة ـ. والمراد من الرؤية الّتي وردت في الظواهر محمولة على العلم اليقيني. وما ذكره من أنّ السماع بلا صوت مبني على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات يدلّ على أنّ المراد بالسماع بلا صوت وحرف هو الاطّلاع الحضوري ، لأنّ السماع والرؤية اللذان يجوز تعلّقهما بكلّ موجود هما قسمان من الاطّلاع الحضوري ، ولذا يصحّ تعلّقهما بغير المحسوسات.
فان قيل : السماع إذا كان بمعنى حصول الاطّلاع الحضوري للمخاطب على ما يلقى إليه ، فلا يكون لخرق العادة مدخل فيه ، فلا معنى لما يقال في هذا المقام أنّ هذا بطريق خرق العادة ؛
قلت : قال بعض المشاهير في جواب ذلك : إنّ ما هو خرق العادة هاهنا أن يطّلع المخاطب على المعانى الّتي هي الملقاة من المتكلّم بدون الاطّلاع على الألفاظ الدالّة أوّلا ثمّ يطّلع على الألفاظ لا من جهة مخصوصة ، فانّ العادة جارية بأن يطّلع المخاطب على المعاني بعد الاطّلاع على الألفاظ الدالّة عليها في جهة مخصوصة. والحاصل : إنّ التكلّم في الانسان انّما يتعلّق بالالفاظ أوّلا وإن كان المقصود الأصلي منه القاء المعانى ، فيسمع الملقى إليه الكلام الالفاظ أوّلا ثمّ يحصل له الكلام الّذي بلا صوت قائم بالهواء ، وأمّا التكلّم بالنسبة إلى الله في الوحي فانّه هو القاء المعانى أوّلا ثمّ القاء الألفاظ باعتبار الوجود الكلّي المثالي أو بلسان الملك المنزل. وجاز أن يحصل احيانا بلسان النبيّ القاء الألفاظ بتبعية القاء المعاني بايجادها في الهواء. وذلك الجواز هو عقلي ، فمتعلّقات تكلّم الباري ـ تعالى ـ على عكس متعلّقات تكلّم الانسان غالبا. وأمّا الالهام الإلهي ـ وهو الّذي يسمّى الالفاظ المتعلّقة به « الحديث القدسي » ـ فهو القاء المعانى بالقلب دون القاء الألفاظ الدالّة عليها ؛ انتهى.
اقول : تحقيق الكلام في هذا المقام بحيث يكون تفصيلا لهذا الكلام ويظهر به جلية الحال ـ فيما سبق ممّا نقلناه عن الغزالي وغيره ـ هو : أنّ حصول العلم للانسان انّما يتصوّر على انحاء ثلاثة :