وأمّا ثانيا : فلما اشير إليه من أنّ التكلّم الحقيقي فرد من القدرة ، فالحكم على الاطلاق بانّه غير القدرة محلّ نظر ؛ هذا.
وقيل : إنّ من قال إنّ كلام الله ـ سبحانه ـ ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالاّ في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية ، ومنعوا من القول بحلول كلامه ـ تعالى ـ في لسان أو قلب أو مصحف وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأديب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي ؛ على أنّ اطلاق اسم المدلول على الدالّ وكذا اجراء الصفات الدالّ على المدلول شائع ذائع ، مثل : سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي ، فاطلاق اسم كلّ من الكلام الحقيقي واللفظى على الآخر واجراء صفاته على الآخر لا بأس به ؛ انتهى.
وأنت خبير بانّ القائل بهذا القول إن كان هو الأشعري فلا ريب في أنّ مراده من الكلام الّذي ليس قائما بلسان أو قلب هو الكلام النفسي ، لا الحقيقى ـ على ما يظهر من تتبع كلماتهم ـ.
وقال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام قد عرفت أنّ الكلام : الحقيقى الأزلي انّما هو بمعنى التكلّم الحقيقي الّذي هو عبارة عن كون الواجب بحيث يقتضي القاء الكلام اللفظى أو معناه إلى المخاطب ، أو بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ أي : العلم الاجمالى الّذي هو غير زائد على ذاته تعالى ـ ، فحينئذ يكون معنى الكلام الحقيقى الازلي : الكلام الحقيقى الّذي هو ازلى العلم ، وحينئذ يكون وصف الكلام بالازلى وصفا بحال متعلّقه ـ وهو العلم به ـ. ولا يخفى عليك أنّ المعنى الأوّل ـ أي : / ٢١٢ MB / التكلّم الحقيقى الّذي يكون ازليا حقيقية ـ كاف في الاعتذار المذكور ، فلا حاجة فيه إلى اعتبار المعنى الثاني ـ أعني : كونه بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ ، لأنّ فيه ارتكاب تمحّل في الوصف بالازلية. لكن قوله : « على أنّ اطلاق اسم المدلول ـ ... إلى آخره ـ » لا يلائم إلاّ المعنى الثاني ، لأنّ في المعنى الأوّل الّذي هو التكلّم الحقيقي ليس دالاّ ولا مدلولا إلاّ بالتأويل ؛ انتهى.
وقد عرفت أنّ ارجاع كلام الأشاعرة / ٢١٥ DB / إلى التكلّم الحقيقى أو العلم بالكلام اللفظى تعسّف كلماتهم تأبى عن الحمل على ذلك.