الانسان من الحيوانات اثبت له نفسا مجرّدة. وفي الموجودات الغير المحصّلة ـ لو جوز وجود عاقل فيها ـ نقول : لا بدّ من كونه مجرّدا واستناد تعقّله إلى تجرّده ، إذ لو كان مستندا إلى شيء غير متحقّق في الموجودات المحصّلة لوجب أن لا يتحقّق التعقّل في الموجودات المحصّلة ، ولو كان مستندا إلى أمر ذاتي أو عرضي يتحقّق في الموجودات المحصّلة ، فقد عرفت الحال فيه.
فقد ظهر وتحقّق بما ذكرناه انّ منشأ التعقّل ومصحّحه هو التجرّد ، فكلّ مجرّد من شأنه التعقّل وحصوله بالفعل له يتوقّف على أحد العاقلات المذكورة ؛ وفي تعقّله لذاته لا يحتاج إلى علاقة خارجة عن ذاته ، لانّ حضور ذاته لذاته من أقوى العلاقات للانكشاف.
ثمّ على ما ذكرناه من أنّ وجود المجرّد القائم بذاته عند ذاته منشأ وسبب للتعقّل ومستلزم للانكشاف وليس التعقّل عين وجوده الخارجي وإن لزم أن يكون كون المجرّد عالما ينكشف له المعلومات غير نفس حقيقته لازما لها والحقيقة هي عين مبدأ الانكشاف لا عين الانكشاف نفسه الاّ أنّه لا يلزم قيام أمر خارجي زائد على ذاته بذاته حتّى يلزم التركيب والتكثير ، لانّ الانكشاف إذا لم يكن لاجل قيام الصورة بذات العالم ولم تكن الصورة الحاصلة منشأ له ومصداقا لصدق العالمية بل كان نفس حقيقة العالم وحدها منشأ لصدق العالم ولا يحتاج في صدق عالميته إلى أمر آخر وراء ذاته ـ كما في العلم الصوري ، فانّ مصداق العالمية فيه ومنشأه هو أمر آخر غير نفس ذات العالم وهو الصورة القائمة ـ لا يوجب التكثير والتركيب ، لانّ الانكشاف وإن لم يكن نفس حقيقة العالم بل صفة لها إلاّ انّه ليس صفة زائدة يوجب انضمام شيء آخر إلى حقيقة العالم الانكشاف هو الظهور والظهور هو ارتفاع الحجب والموانع ، وكلّما يشتدّ الظهور يصير ارتفاع الأغيار والموانع أقوى ويكون التجرّد أشدّ. فكما انّ التجرّد صفة لذات المجرّد وليست عين ذاته إلاّ أنّها لا يوجب تكثّرا وتركّبا ـ بل كلّما كان أشدّ كان الموصوف به أشدّ بساطة ووحدة ، وكذلك كلّما يشتدّ الظهور والانكشاف يكون ذاته أشدّ تجرّدا عن الموانع والحيثيات وأقوى بساطة ووحدة ـ ، فالتجرّد والانكشاف من الصفات الّتي ترفعان التركيب والتكثير ، وبقدر زيادتهما وشدّتهما يزداد البساطة والوحدة و