بل قد يعلم لها مضرّة ومنقصة ؛
وإن اريد في الجملة ومن بعض الوجوه ، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك ، فانّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفعان بهما.
وثانيهما : انّه قد تصدر عن بعض الحيوانات العجم أفعال محكمة متقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها ـ كالنمل وكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور وفيما بين الناس مشهور ـ مع أنّها ليست من اولى العلم.
والجواب عن الأوّل : اختيار الشق الأوّل ـ أي : كون الموجودات مرتّبا ترتيبا لا خلل فيه أصلا بحيث لا يتصوّر ما هو أصلح واوفق منه ، فانّه لا شبهة في أنّ هذا النظام المشاهد هو النظام الأصلح الأعلى ، ولا يتصوّر ما هو أكمل ولا يمكن ان يوجد ما هو اعلى منه. أمّا على طريقة المليين فلاستحالة ترجيح المرجوح ، وامّا على طريقة الفلاسفة فلأنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان تامّا فوق التمام فيجب أن يكون ما يفيض ويترشّح عنه وما يقتضي صدوره أشرف وأعلى ما يتصوّر ، ولذلك أجمع الكلّ على أنّ هذا النظام الجملى أحسن النظام وأصلحه ولا يتصوّر نظام أكمل من الواقع ، ولم يخالف في ذلك أحد إلاّ الشافعي ـ على ما نقل عنه انّه قال : يجوز أن يوجد نظام يكون أعلى واكمل من النظام الواقع ـ ، وهو ليس من رجال هذا العلم ، بل هو أجنبى العلم في هذا الفن.
وما ذكر من « انّ الدنيا طافحة بالشرور ونرى اشياء نعلم لها مضرّة ومنقصة » ، ففيه : أنّها شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض وراجعة إلى الأعدام ، فلا يلزم بها خلل ونقصان في نظام الموجودات ـ على ما تقدم مفصّلا ـ ؛ هذا.
وقيل : وممّا يدلّ على كون النظام الموجود نظاما احسن « قاعدة الامكان الأشرف » ؛ وتقريرها : هو انّه إذا وجد الممكن الأخسّ يجب أن يوجد قبله الممكن الأشرف ، لأنّه إذا وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله فلا يخلو : إمّا ان يكون الاشرف ممكن الوجود ، أم لا ؛ والثاني ليس كلامنا فيه ـ لانّ الكلام في الممكن ـ ؛ والأوّل إذا فرض صدوره عن الواجب فامّا ان يصدر عنه ـ تعالى ـ بواسطة الأخسّ ـ