والوجه في عدم ورود اعتراضاتهم غفلتهم عن انّ المشائين لم يجعلوا مجرّد كون الشيء موجودا لذاته ومجرّد التجرّد سببا للعاقلية ، بل جعلوا تجرّد الموجود بالفعل في حدّ ذاته سببا لها ، فالموجود بالفعل القائم بذاته منشأ للعلم عندهم ، والهيولى ليس كذلك ؛ فكون الشيء موجودا بالفعل قائما بذاته عند المشائين بمنزلة كون الشيء في ذاته لذاته عند الاشراقيين. فكما أنّ الشيء إذا كان نورا في نفسه قائما بذاته كان نورا لنفسه وظاهرا لذاته / ١٢٢ DA / وعالما بها وبالعكس ، فكذلك إذا كان الشيء موجودا بالفعل وقائما بذاته كان ظاهر الدلالة وعالما بذاته ، وبالعكس. وكما أنّ الشيء إذا لم يكن نورا في نفسه أو كان ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته كذلك إذا لم يكن الشيء موجودا بالفعل ولم يكن قائما بذاته لم يكن عالما بذاته ، وقد ظهر بما ذكر انّ التجرّد والبساطة ـ اللّذين هما منشأ التعقّل ـ انّما هو التجرّد والبساطة بشرط الوجود بالفعل ، والهيولى بعد وجودها ليس لها تجرّد ولا بساطة ، بل البساطة الّتي نتصور لها انّما هو البساطة بالنسبة إلى ماهيتها لا بالنسبة إلى وجودها. ولذا اعترض بعض الأعلام المحقّقين على قول صاحب الاشراق في اعتراضه على المشائين : « لا شيء في / ١٢٧ MA / حدّ نفسه اتمّ بساطة من الهيولى » : بأنّ هذا من باب الاشتباه بين الماهية والوجود ، فانّ الهيولى أبعد الأشياء من التجرّد والبساطة لانّها متكثّرة بحسب تكثّر الصور في الواقع لانّها ليست بمتحصّل الوجود في الواقع الاّ بالصور ، والتجرّد الّذي يعتبر في كون الشيء عاقلا هو تجرّد الوجود لا تجرّد الماهية والمفهوم ؛ ولو كانت الصور أعراضا متأخّرة الوجود عن وجود الهيولى ـ كتأخّر السواد والكتابة عن وجود الانسان ـ لكان لما ذكره وجه. فبساطتها عبارة عن بساطة معنى جنسي كالجوهرية ، ومناط العاقلية هو بساطة الوجود لا بساطة المعنى. ومعنى بساطة الهيولى أنّها إذا لوحظت بحسب نفس ذاتها وقطع النظر عن الصور الّتي تحصّلت وتقوّمت هي منها في الواقع كان حالها في اعتبار نفسها أنّها جوهر فقط والصور خارجة عن ماهيتها داخلة في وجوداتها المتعدّدة ، فذاتها في غاية ضعف الوجود وضعف الوحدة شبيهة بالكلّيات الجنسية في الوجود والوحدة ، لأنّ الوجود هو الظهور.
__________________
المطبوع من هذا الكتاب.