للادراكات الحسية ـ من الابصار والسمع والتخيل وغير ذلك ـ حتّى يكون المدرك في جميعها هو النفس ، أو المراد منها هو التعقّل الحصولي الكلّي والتعقّل الحضوري الانكشافى ، لا الادراك الحصولي الجزئى بأن يجوز أن يدرك بعض القوى الجسمانية بعض الصور والمعاني الجزئية بحصول بعض المناسبات المادية والارتباطات الجسمانية من الوضع والمحاذات وغير ذلك.
فنقول : بعض العقلاء على أنّ ما هو المختصّ بالمجرّد من الادراك هو / ١٢٣ DB / التعقّل الشامل للقسمين ـ أعني : العلم الحصولي التجريدي والحضوري الانكشافى ـ ؛ وأمّا الاحساس الّذي هو عبارة عن ادراك جزئي غير منفكّ عن اللواحق المادّية فيمكن حصوله لبعض القوى الجسمية ، ولذا يحصل هذا القسم من الادراك للحيوانات العجم مع عدم كون نفوس مجرّدة لها. وذهب جماعة من الحكماء ـ منهم المعلم الثاني ـ إلى انّ مطلق الادراك مختصّ بالمجرّد ولا يكون غير مجرّد مدركا ؛ وقالوا : المدرك في جميع الاحساسات الحاصلة للانسان هو النفس ، فانّه إذا اجتمع شرائط الابصار يحصل للنفس علم جزئي بالمبصر على سبيل الحضور والمشاهدة من طريق البصر ، والصوت إذا وجد في الهواء بسبب التموّج يدركه النفس من طريق السمع ؛ وقس عليها سائر الاحساسات. والحاصل : إنّ شأن الحواسّ ليس إلاّ الانفعال ، وأمّا اصل الادراك فانّما هو من النفس. والدليل على ذلك انّه قد ينفعل الحاسّة عن الشيء المحسوس ويكون النفس لاهية ، فلا يقع الادراك مع انّه لو كان المدرك هو الحاسّة فلمّا حصل الانفعال لكان الواجب ان يحصل الادراك أيضا. قال المعلم الثاني في تعليقاته : « الادراك انّما هو للنفس وليس للحاسّة إلاّ الاحساس بالشيء / ١٢٨ MB / المحسوس والانفعال. والدليل على ذلك : انّ الحاسّة قد تنفعل عن المحسوس وتكون النفس لاهية ، فتكون الشيء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس يدرك الصور المحسوسة بالحواسّ ويدرك الصور المعقولة بتوسّط صورها إذ يستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ويكون معقول الصور لها مطابقة لمحسوسها ولم يكن معقولها. وذلك لنقصان ذاتها واحتياجها في ادراك الصور المعقولية إلى توسّط الصور المحسوسة ، بخلاف المجرّدات الصرفة فانّها تدرك الصور المعقولة من اسبابها