وعللها الّتي لا تتغيّر. وحصول المعارف للانسان تكون من جهة الحواس وادراكه للكلّيات من جهة احساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوّة. فالطفل يصير مستعدّة يحصل له الاوائل والمبادي وهي تحصل له من غير استعانة عليها بالحواسّ بل تحصل له من غير قصد ومن حيث لا يشعر ؛ والسبب في حصولها له استعداده لها. وإذا فارقت النفس البدن ولها الاستعداد لادراك المعقولات فلعلّها يحصل لها من غير حاجة إلى القوى الجسمية الّتي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر ـ كالحال في حصول الاوائل للطفل ـ ؛ والحواسّ هي الطرق الّتي تستفيد منها النفس الانسانية المعارف » (١) ؛ انتهى.
ولا يخفى انّ التأمّل في كلام هذا المعلّم يعطى انّه قائل بثبوت الاحساس للحواسّ وانّما خصّ الادراك بالنفس الناطقة والظاهر انّ مراده بالادراك هو التعقّل.
ثمّ على المذهب الأوّل يكون كلّ شعور متحقّق لإحدى الحواسّ ادراكا حصوليا جزئيا غير منفكّ عن اللواحق المادّية ـ كالكمّ والوضع وغير ذلك ـ.
ثمّ الادراك الحصولي للحواسّ إمّا أن يكون المدرك فيه صورة شيء خارج أو معنى منتزعا عنه ، والأوّل كادراك القوة الباصرة للمبصرات ـ على القول بالانطباع ـ ، وادراك القوّة الخيالية للصور الأشياء إذ هذا الادراك انما يكون بانطباع صورها الجزئية المقارنة لبعض اللواحق المادّية وارتسامها فيها وان حصل لتلك الصور نوع تجريد مع كون التجريد الحاصل للصور الخيالية أشدّ من التجريد الحاصل للصور المدركة بالبصر ، لانّ التجريد للمدرك على حسب التجرّد للمدرك. فكلّما كان المدرك أبعد عن المادّية وأقرب إلى التجرّد كان مدركه أيضا كذلك ، فلما كان القوّة الخيالية أبعد عن المادّة بالنسبة إلى القوّة الباصرة فمدركها أيضا تكون كذلك. وممّا يؤكّد ذلك انّ الأثر من الشيء الخارجي يصل إلى القوّة الباصرة ومنها يصل الأثر إلى القوّة الخيالية ، فالبصر يدرك ما في الخارج بعد تجريده نوع تجريد ، ثمّ القوّة الخيالية تدرك ما يدركه البصر أيضا مع تجريد آخر ، ثمّ النفس الناطقة يدرك ما أدركه الخيال بعد التجريد التامّ والنزع المحكم و
__________________
(١) راجع : التعليقات ، الفقرة ٣ ، ص ٣٨.