المقدّمة الثالثة : لا ريب في أنّ واجب الوجود ـ تعالى شأنه ـ في غاية التجرّد وقد يظهر / ١٢٤ DB / ذلك من اثبات كونه ـ تعالى ـ غير جسم وغير جسماني ، ومن بيان انّه ـ تعالى ـ صرف الوجود ومحض الموجود.
وإذا ظهرت وثبتت تلك المقدمات الثلاث ـ أعني : كون التعقّل عبارة عن حضور الشيء عند مجرّد قائم بذاته أو لازما له وكون كلّ مجرّد حاضرا عند ذاته وكون واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد ـ يظهر تمامية الدليل الثالث لاثبات علمه ـ تعالى ـ ، وهو انّه ـ تعالى ـ مجرّد وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ وبذلك يثبت علمه ـ تعالى ـ بذاته. فهذا الدليل انّما يفيد علمه ـ تعالى ـ بذاته فقط ، لا بما عداه من الموجودات. نعم! ، يمكن أن يستدلّ بواسطة علمه ـ تعالى ـ بذاته على علمه بما سواه من الموجودات الّتي هي افعاله ، لانّ العلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ـ كما يأتي تحقيقه ـ.
وتنقيحه قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الدليل : « وفي هذا الدليل سرّ تأمّل فيه ان كنت ذا شوق ، فانّه لا يظهر إلاّ لأهل الحالة والذوق ». وقد ذكروا لاظهار السرّ وجوها :
منها : انّ السرّ هو انّ علمه ـ تعالى ـ بذاته هو عين علمه بأفعاله اجمالا ـ كما ذكره هذا القائل في كلامه تصريحا وتلويحا غير مرّة ـ. وربما يقرع سمعك توضيح ذلك وجلية الحال فيه بعد ذلك.
ومنها : انّ السرّ هو صعوبة اتمام هذا الدليل بطريق أهل الاستدلال والعلوم الظاهرية وقوّته عند أهل التألّه والذوق.
ولا يخفى انّ هذا الكلام وان كان في نفسه صحيحا إلاّ انّ كونه هو السّر المأمور بالتأمّل لاظهاره بعيد جدّا.
ومنها : انّ السرّ هو دلالة هذا الدليل على انّه لا علم حقيقة لغير واجب الوجود بذاته ، اذ جعل مناط التجرّد المقتضي للعلم كونه محض الوجود الحقيقي المنزّه ، ولا شكّ في انحصاره في الواجب.
ويرد عليه : انّه لم يظهر ممّا ذكر إلاّ ثبوت العلم للمجرّد الحقيقي لا نفيه عمّا عداه من