منشأ العالمية بالفعل هو قيام الشيء بذاته مع حصول ربط خاصّ بينه وبين المعلوم وذلك حاصل في حقه ـ تعالى ـ بالنسبة الى الممكنات الموجودة ، فثبت به عموم علمه ـ تعالى ـ أوّلا من غير افتقار إلى توسيط كونه عالما بذاته ؛ وهذا كلام صحيح لا غبار عليه. وهو أحسن الوجوه المذكورة للسرّ وإن كان فيه بعد أيضا. وامّا بناء هذا الوجه فعلى انّ الموجودات الممكنة ليس لها / ١٢٥ DA / وجود حقيقة وحمل الموجود عليها انّما هو على سبيل التجوّز نظرا إلى انتسابها إلى حضرة الوجوه الحقّ بصدق الموجود واطلاقه عليها لمجرّد تلك النسبة من غير أن يكون لها وجود في الخارج.
ولا يخفى انّ هذا المذهب باطل ، لانّ انكار كون الممكنات موجودة حقيقة والقول بعدم انتزاع الوجود العامّ عنها سفسطة ، وقد بيّنا فساد هذا المذهب ـ المسمّى بذوق المتألّهين ـ بما لا مزيد عليه في رسالتنا المسمّاة بقرّة العيون (١).
ثمّ جعل ذلك سرّا للدليل المذكور لا وجه له ظاهرا ، لانّ الدليل المذكور ـ أعني : كون كلّ مجرّد عاقلا ـ لا يدلّ بوجه على عدم كون الممكنات موجودة حقيقة. والظاهر انّ جعلهم ذلك سرّا لهذا الدليل بناء على أنّ التجرّد الّذي هو منشأ التعقّل في الواجب هو غاية التجرّد وهو كونه ـ تعالى ـ محض الوجود ، وإذا كان محض الوجود فظنّوا انّه الموجود بالحقيقة وغيره لا يصدق عليه الموجود إلاّ مجازا.
ومنها : انّ السرّ هو ما ذهب إليه الصوفية من انّ للوجود حقيقة هو الواجب ـ تعالى ـ والموجودات ليست امرا خارجا عنه ـ تعالى ـ ، بل هي تعينات له ـ تعالى ـ ، فتارة يقولون : انّ الواجب ـ تعالى ـ بمنزلة الكلّي الطبيعيّ والموجودات تعينات له ؛ وتارة يقولون : انّ الواجب ـ تعالى ـ بمنزلة البحر والأشياء بمنزلة الأمواج ، فكما انّ الأمواج ليست أمرا خارجا عن البحر فكذلك سائر الأشياء بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، فليس في الوجود إلاّ الله. قال السيّد الداماد بعد ما ذكر انّ السرّ هو أنّ ما سوى الله من الممكنات ليس لها وجودا ـ ... الى آخر ما نقلناه عنه ـ : « هذا على ذوق المتألّهة ، ومذاق الصوفية أعلى من ذلك ، فانّهم يزعمون انّ الماهية الممكنة لا يطلق عليها الموجود أصلا ، بل انّما
__________________
(١) راجع : قرّة العيون ، ص ١٣٨.