المادّة ولواحقها غير معتبر في حقيقة العلم ، بل اعتباره انّما هو في العلم الحصولي ـ كما عرفت سابقا ـ. وامّا كون ما حضر عنده مجرّدا قائما بذاته فانّما يعتبر في العالمية لا في المعلومية ، ويتحدس ذلك من ملاحظة عدم امكان حضور المجرّد من حيث هو مجرّد عند غير المجرّد ومن انّه لا يتصوّر حضور شيء عند شيء لا يكون قائما بذاته وحاضرا لذاته ، إذ لو امكن حضور المجرّد عند غير المجرّد / ١٦٧ DB / وجاز حضور شيء عند ما لا يكون قائما بذاته لامكن القول بأنّ العالم بالنفس وقواها بالعلم الحضوري انّما هو بعض القوى المادّية دون النفس ، ولكن الحدس الصائب يدلّ على عدم امكان ذلك.
والحاصل : انّ هذا البرهان وكثيرا من البراهين في العلم الإلهي انّما يتمّ بمعونة الحدس القويّ ، وقد تقدّم ما يصحّح ذلك بطريقة النظر أيضا.
وقد ظهر ممّا ذكر انّه يجب أن يعتبر التجرّد والاستقلال في الوجود في منشأ العالمية في هذا الدليل ـ كما هو المذكور في المواقف ـ ، اذ لو لم يعتبر التجرّد والاستقلال واكتفى بمجرّد حضور شيء عند شيء لزم كون كلّ شيء ـ ولو كان مادّيا ـ عالما بنفسه ، وهو باطل ؛ هذا.
ثمّ المنع الثاني ـ أعني : جواز اشتراط التغاير بين الحاضر وما حضر عنده ـ فجوابه : انّ عدم اشتراط التغاير بين العالم والمعلوم في العلم يعلم من علم الانسان نفسه ، وأمّا كون الحواسّ غير عالمة بأنفسها فهو انّما يكون لأجل كونها غير مجرّدة ولا موجودة بالاستقلال ، لا لاجل الاشتراط المذكور.
ثمّ لا يخفى أنّ هذا الدليل هو بعينه الدليل السابق ، إلاّ انّ مجرّد استناد كلّ شيء إليه ـ تعالى ـ لا يفيد علمه ـ تعالى ـ به ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على علمه لذاته ـ أعني : كونه مجرّدا ـ وكون كلّ مجرّد عالما بذاته مع ما اخذ في الدليل السابق ـ أعني : قولنا العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ـ. فيصير خلاصة هذا الدليل : انّ واجب الوجود في أعلى مراتب التجرّد فيكون عالما بذاته ، وذاته ـ تعالى ـ علّة فاعلية لجميع الممكنات إمّا بغير واسطة أو بواسطة هي منه ، فيكون عالما بجميع الموجودات كما قال الله ـ تعالى ـ : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١). فأنّ الحكم بان الفاعل العالم بذاته عالم بما صدر عنه
__________________
(١) كريمة ١٤ الملك.