المقدّمتين انّ المقدّمة الأولى لا خصوصية لها بعلم الفاعل نفسه بنفسه وغيره به ، بل على تقدير صحّتها لو كان العالم بالفاعل غيره أيضا لزم علم هذا الغير بجميع معلولاته ؛
وأمّا المقدّمة الثانية فلا تجري فيما إذا كان غير الفاعل عالما به ، بل المراد منها انّ الفاعل إذا كان ذا شعور بنفسه يكون ذا شعور بما صدر عنه. ولا ريب في أنّ هذه المقدّمة ـ أي : الثانية ـ بديهية أو قريبة من البداهة ، فانّ كلّ شاعر بنفسه شاعر بما يصدر عنه البتة وإن قطع النظر عن كون العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول ، لأنّه لا يتوقّف عليه كلّية ولا يكون ثبوته موقوف على تمامية ما قيل في اثباته. بل إذا ثبت علم الفاعل بنفسه يحكم البديهة بعلمه بما يصدر عنه ، لانّ العلم بالذات لا ينفكّ عن العلم بلوازمه ومعلولاته. فلمّا ثبت أنّ واجب الوجود فاعل لجميع الموجودات وعالم بنفسه يكون عالما بما صدر عنه البتة ؛ ولبداهة ذلك قال ـ سبحانه ـ في مقام الاستفهام الانكاري : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) ؛ أي : لا يعلم مخلوقاته والحال انّه لطيف خبير ، أي : عالم شاعر بذاته. فهذا أحد الطريقين في اثبات علمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات بعد ثبوت كونه ـ تعالى ـ فاعلا لجميعها وكونه عالما بذاته ؛ وهو تامّ لا يرد عليه شيء بوجه.
وأمّا الطريق الآخر لاثباته ـ أعني : كون العلم بالعلّة موجبا للعلم بالمعلول ـ فنقول في بيانه : انّ المشهور بين القوم انّ العلم التامّ بالعلّة ـ أي : العلم بمهيتها ولوازمها وعوارضها وملزوماتها ومعروضاتها وما لها في نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ يستلزم العلم التامّ ـ أي : العلم من جميع الوجوه المذكورة ـ بالمعلول ، ولا عكس ، يعني : انّ العلم التامّ بالمعلول لا يستلزم العلم التامّ بالعلّة.
وأنت تعلم انّ ما ذكر من استلزام العلم التامّ بالعلّة للعلم التامّ بالمعلول صحيح لا غبار عليه ، لأنّه إذا علم العلّة بمهيتها ولوازمها لا يبقى شبهة في حصول العلم بمعلولها ، لانّ المعلول من لوازم العلّة وما يترشح عنه فاذا علم انّ / ١٣٢ MB / العلّة حقيقتها كذا وما يلزمها كذا وكذا وخواصّها كذا وكذا يعلم معلولها البتة ، فالعلم بالعلّة بهذا الوجه
__________________
(١) كريمة ١٤ ، الملك.