إذ يراد من الإيجاديّة هنا أنّها نفس الخارج وحقيقته وليست عنوانا حاكيا عن الخارج تصوّرا وبالحمل الأوّلي ، ولكنّه يكون مغايرا للخارج بالحقيقة وبالحمل الشائع. فالمعاني الحرفيّة إيجاديّتها بمعنى كونها مطابقة للخارج تصوّرا وتصديقا بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع.
فالنسب والروابط الذهنيّة متقوّمة بطرفيها في الذهن أيضا ، بحيث إنّها تحضر إلى الذهن مع الطرفين ويستحيل انفكاكها وتجرّدها عن الطرفين ، وهذا يعني أنّ ما في الذهن من نسب وروابط هو عين الخارج ونفسه وليس شيئا آخر يغايره.
والأنسب أن تحمل إيجاديّة المعاني الحرفيّة التي قال بها المحقّق النائيني (١) على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة (٢) من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.
ذكر المحقّق النائيني بأنّ المعاني الاسميّة معان إخطاريّة بينما المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وفسّر كلامه بأنّ الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود ومتحقّق قبله في مرحلة سابقة عن اللفظ ، وإنّما اللفظ يخطر المعنى في الذهن ويحضره فيه. بينما الحرف يوجد معناه فلا معنى للحرف قبل وجوده ، ولذلك فهو لا يخطر ولا يحضر المعنى الذي كان موجودا ، إذ لا وجود للمعنى قبله ، وإنّما الحرف يوجد المعنى بوجوده اللفظي.
والأنسب أن تحمل الإيجاديّة التي ذكرها المحقّق النائيني على ما ذكرناه من أنّ الحرف سنخ معنى يراد به أن يكون عين الحقيقة تصوّرا وتصديقا لا تصوّرا فقط.
وأمّا بناء على الإيجاديّة بمعنى الربط الكلامي بين الطرفين فلا يمكن أن يتعقّل معنى للحروف وإن وجدت في الكلام ؛ لأنّه إذا لم يكن لها معنى في مرحلة سابقة عن الكلام فكيف استعمل لفظ لا معنى له وبعد استعماله صار له معنى؟! ولما ذا لا يتمّ ذلك في كلّ الألفاظ التي لا معنى لها في مرتبة سابقة؟
إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال لفظ لا معنى له في الكلام ؛ لأنّ الغاية من وضع الألفاظ واستعمالها كونها حاكية عن المعاني الموضوعة لها ، إذ لا يتكلّم إنسان
__________________
(١) فوائد الأصول ١ : ٣٧.
(٢) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.