وقد ميّزنا سابقا (١) بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعليّة المجعول تابعة لفعليّة موضوعه خارجا ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعا لتكثّر أفراد العالم في الخارج.
وعلى أساس التمييز بين الجعل والمجعول الذي تقدّم سابقا ، حيث إنّ الجعل هو عالم إنشاء الحكم ولحاظه وواقعه ، بينما عالم المجعول هو عالم فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، فإذا وجد الموضوع في الخارج صار الحكم فعليّا فيسمّى بالحكم المجعول. وأمّا إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج فيسمّى بالحكم الجعلي.
ولذلك لا مانع من وحدة الحكم والموضوع في عالم الجعل وتكثّرهما في عالم المجعول ؛ لأنّ الأوّل راجع إلى المولى وكيفيّة حكمه وموضوعه ، بينما الثاني راجع إلى عالم الخارج والمصاديق الخارجيّة للموضوع.
والخطاب الشرعي مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، وليس ناظرا إلى فعليّة المجعول ، وهذا يعني أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق الشمولي إنّما يكون في مرتبة غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.
بعد أن عرفنا أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم إنّما تكون بلحاظ عالم المجعول لا الجعل ، نقول : إنّ الخطابات الشرعيّة من قبيل ( أكرم العلماء ) ( لا تكذب ) ونحوهما مفادها التصديقي ومدلولها الجدّي إنّما هو عالم الجعل ، فقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) مفادها الجدّي ومدلولها التصديقي هو إنشاء حكم بوجوب الحجّ على المستطيع في عالم الجعل والتشريع والواقع الثبوتي. وهذا معناه أنّ هناك حكما بنحو القضيّة الحقيقيّة مفاده ( كلّما وجد مستطيع وجب عليه الحجّ ) ؛ لأنّ الخطابات الشرعيّة كلّها تبرز الأحكام بنحو القضيّة الحقيقيّة التي يكون موضوعها مقدّر الوجود. ففي عالم الجعل ليس إلا حكم واحد على موضوع واحد.
وليست الخطابات الشرعيّة ناظرة إلى فعليّة المجعول ؛ لأنّ فعليّة المجعول إنّما تتحقّق إذا تحقّق الموضوع في الخارج فعلا ، فإذا لم يتحقّق الموضوع فلا حكم. والأحكام
__________________
(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.
(٢) آل عمران : ٩٧.