وأمّا الوجهان الأولان فلا يتوقفان على ذلك ، لأنّ السيرة ؛ ـ سواء المتشرعية أم العقلائيّة ـ ليست دليلا لفظيّا ليتمسك بظاهرها ، وإنّما هي من الأدلّة اللبّية.
نعم ، يشترط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة (١) أن تكون كاشفة عن الإمضاء عن طريق عدم الردع ، ولكن اكتشاف عدم الردع فيها يجب أن لا يكون على أساس ظهور حال الشارع في مقام التوجيه والإرشاد والتعليم والمراقبة على تطبيق الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ هذا معناه أن يكون الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجيّة الظهور متوقفا على حجيّة ظهور حال الشارع ، وهذا النحو من الظهور الحالي لم نفرغ من إثبات حجّيته بعد ، فيكون مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ حجيّة الظهور المراد إثبات حجّيتها تشمل كل ظهور سواء اللفظي أو المقامي أو الحالي.
فلا بدّ من اكتشاف عدم الردع عن السيرة العقلائيّة من خلال الدليلين العقليين أي كون الشارع آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر أو كونه هادفا وله غرض.
إنّ سيرة المتشرّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكن الشواهد التاريخية إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجيّة الظهور أخفى من غيرها ، كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجيّة الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة.
وهنا نقول : إنّ مدرك الحجيّة إذا كان هو سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن نتأكد أنّها جرت فعلا على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟ وأمّا إذا كان مدرك الحجيّة السيرة العقلائيّة فيمكن للقائلين بالحجيّة أن يدعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة أيضا.
__________________
(١) وأمّا الاستدلال بالسيرة المتشرعية فلا نحتاج فيها إلى ذلك ، لأنّها لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع أصلا ، لأنّها تكشف عن قول الشارع بطريق الإن ، وشمول العبارة لها من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو من باب المسامحة في التعبير.